وصل
إلى برق الشرق من موقع المجتمع المدني :
نعم
لعودة كل المنفيين....
رد
على عبد الإله بلقزيز
أكرم
البني*
أثارت
العودة المظفرة لهيثم مناع الى سورية
بعد أكثر من ربع قرن في المنفى
والاغتراب الإجباري تفاعلات وردود
أفعال متنوعة.. بين من لم يصدق الخبر،
وقادته شكوكه الى مطار دمشق الدولي
لرؤية هذا المناضل العتيق وهو يخطو
خطواته الأولى على أرض الوطن، وقال
آمنت بعد أن لمس بيده موضع مسامير
الصليب.. وبين من أذهله الحدث وأربكه،
فخرجت مواقفه على الصورة ذاتها، مربكة
ومضطربة، دون تروي ودون أن يبذل جهداً
مناسباً لتفسير ما حصل
وإظهار الخيط الأسود من الأبيض..
وثالث أخذ الأمر بقوة على محمل السياسة
وشد الحبل صوب تحليل سياسي أضفى على
هذه الواقعة طعماً خاصاً تستحقه،
متأملاً أن تكون الخطوة فاتحة لمزيد من
الخطوات على طريق رد المظالم لأهلها،
وناصحاً السلطات السورية أن تعير
مزيداً من الانتباه لشؤون الحريات
وحقوق الانسان كي لا تبقى سلاحاً في يد
خصومها.
لكن
الحقل السياسي مليء بالألغام
والمطبات، خصوصاً عند قراءة مثل هذا
الحدث الحساس والجديد تماماً على
سورية، فلم ينج من مطباته
كاتب بارز في شؤون الحريات
والديمقراطية كعبد الإله بلقزيز. ففي
مقالة نشرتها جريدة السفير بتاريخ / 27 /
8 / 2003 / يقول
بلقزيز بعد أن يشاركنا الفرحة بعودة
هيثم مناع دون شروط الى وطنه :
" إن المعارضين السوريين في
الخارج شأن المعارضين العراقيين أو
الليبيين أو اللبنانيين ( جماعة لحد )
ليسوا سواء في الاعتبار والتقدير لدى
السلطات السورية : ففيهم وطنيون
يختلفون مع السلطة في الرأي وقد يحتدون
في معارضتها وتحتد في مواجهتهم وفيهم
جماعات آثرت التعاون مع الأجنبي
ومخابراته وساهمت على قلة أعدادها في
الحالة السورية في تأليب القوى
الخارجية المعادية ضد نظام بلدهم.
ومشكلة هؤلاء أن الحدود تضيع لديهم بين
معارضة النظام وبين المس بالوطن! ومن
تحصيل الحاصل أن لا تذهب السلطات
السورية الى فتح موضوع عودة المعارضين
إلا في الحدود التي لا تهدر الفوارق
بين معارض ومعارض ".
ربما
لم يقّدر الكاتب ما لهذه الكلمات من
أثر سلبي في الشارع السوري بوجهيه
السياسي والثقافي وأي سلاح أعمى،
عنوانه " التعامل مع الأجنبي "
أعيد صقله في مواجهة المعارضة ودعاة
التعددية والديمقراطية، وهو العارف
تماماً أن الأنظمة العربية التي نصبّت
من نفسها وصياً على الوطن ووكيلاً
حصرياً على مصالحه نجحت في سحق وتفتيت
بذور الحرية والتعددية السياسية بدعوى
أنها تهدد أمن المجتمع وتضعفه في
مواجهة الخطر الإمبريالي والصهيوني،
وتمكنت بالتالي عبر إلصاق تهم العمالة
والخيانة من تجيير مشاعر الناس
وأحاسيسهم الوطنية ضد كل من يرنو نحو
الحرية والديمقراطية.
لا
يخفى على الكاتب أن تمظهر الأنظمة
العربية بالمظهر الوطني الحريص
والمتشدد، وما رفعته من شعارات وطنية
شكّلت سلاحاً ناجعاً لضبط الأوضاع
الداخلية أكثر مما استخدم في الخنادق
وساحات القتال، وكانت بمثابة حصان
رابح امتطته السلطات الشمولية لتعزز
أسباب سلطانها وتصون ما جنته من مكاسب
ومغانم. والنتيجة نبذ أشكال الحياة
الديمقراطية كافة وتشديد القبضة
القمعية على شعوبها، وشن حملات مستمرة
من الإقصاء والتصفية طاولت معظم القوى
الديمقراطية دون أن يشفع لهذه الأخيرة
الدم الغزير الذي سفكته دفاعاً عن حرية
أوطانها أو التضحيات الجسام التي
قدمتها على مذبح الصراع مع العدو
الصهيوني. وبالمقابل، عندما تطلبت
مصلحة الوطن في غير لحظة، إعادة النظر
بطابع وكفاءة القوى التي تستأثر
بالقرار السياسي بعد فشلها وعجزها
البين عن تحمل مسؤولياتها الوطنية، لم
تجد الأنظمة " الوطنية "
نفسها معنية بهذا الأمر واستبسلت
لحماية مواقعها وامتيازاتها، لتبقى
استقالة الرئيس عبد الناصر بعد هزيمة
حزيران عام / 1967 / بادرة
فريدة في التاريخ العربي الحديث.
ولا
شك أن بعض أسباب تعثر الديمقراطية في
مجتمعاتنا تعود ـ بعيداً عن لغة
المصالح السلطوية والحسابات الضيقة ـ
إلى إشكالية عامة جوهرها شيوع
ثقافة مشوهة وضعت إشارة مساواة
ومطابقة بين السلطة الشمولية والوطن
وخلقت تعارضاً مستحكماً بين مبدأ
الحرية والفكرة الوطنية، وبات الأمر
كما لو أننا في أتون معركة شاقة لتحرير
النضال الديمقراطي من كافة الاختلاطات
والتشوهات التي تمنعه من التقدم.
إن
أبسط مبادىء الديمقراطية وحقوق
الانسان تتنافى مع الإصرار على تمرير
أي خطوة للانفتاح السياسي من مصفاة رضا
السلطة الشمولية حتى لو كانت وطنية.
فأي درك تصل إليه حقوق المواطن إذا
استندت الى أساس سياسي يضع السلطة
السورية في موقع الوصي الوحيد على
الوطن ويمنحها حق اتخاذ أي قرار
للإفادة من معارضين ترضى عنهم وازدراء
أو اضطهاد آخرين لا تتوفر لديهم
الميزات المطلوبة، ثم ألا يفتح هذا
الفهم الخاطىء والخطير، الباب على
مصراعيه أمام المزايدات الوطنية أو
القومية؟!.
ثم
أين بيّنة الكاتب في إشارته الى قلة
تضع يدها " اليوم " مع الأجنبي ضد
بلدها؟! وإذا كان يغمز من قناة الشكوك
والارتياب، فالحقيقة تقول أن المعارضة
المهاجرة بكل ألوانها وأطيافها التي
جمعها " الميثاق الوطني في سورية "
آب / 2002 / أعلنت بوضوح أنها تلتزم :
" بمواجهة التحديات المفروضة
على الوطن مهما كان مصدرها وصبغتها....وبتقديم
مصلحة الوطن العليا على المصالح
الذاتية والخاصة في كل الموازنات
السياسية " وأكدت أيضاً في البيان
الختامي : " أن الاستقواء بالآخر على
الوطن كياناً ومؤسسات وإنسانا هو خط
أحمر لا يقترب منه إلا من هانت عليه
نفسه ".
ماذا
يريد بلقزيز ومن يهمهم أمر الصفة
الوطنية للمعارضة السورية أكثر من هذا
الوضوح؟ ثم لنفرض جدلاً وجود مثل هذه
القلة، هل تملك السلطة وحدها وهي أحد
أطراف الخلاف، الحق في إدانتهم
ومحاسبتهم، أم تقول قواعد العمل
الديمقراطي أن كلمة الفصل في مثل هذه
الأمور هي للقضاء، وتستطيع المحاكم
العادلة الاقتصاص من كل من يخل بأسس
العقد الاجتماعي، أو من تسول له نفسه
العبث بمقومات أمن المجتمع وسلامته؟!.
بالمقابل
وطالما يتفق الجميع أن المعارضة
السورية لا تضم أمثال أحمد الجلبي وهي
تتميز بمواقفها الوطنية الصادقة،
لماذا لا يصار إذن الى تحريرها، الى
إصدار قانون للأحزاب يضمن لها حقها في
الوجود والنشاط السياسي؟!. ولماذا لا
يطلق سراح مئات من المعتقلين
السياسيين الذين يشهد لهم تاريخياً
بمواقفهم الوطنية والقومية الصادقة
وأخرهم معتقلي ربيع دمشق التسعة؟!
نعم
أن الأخطار التي تحيط بسورية أكثر من
أن تحصى لكن لا يمكن النجاح في
مواجهتها إلا بوطن يتسع للجميع تتماثل
فيه حقوق المواطنة ويستند الى وحدة
طواعية تقوم على أسس الحرية والتعددية.
فلا
اشتراطات لضمان صحة وعافية الانفتاح
الديمقراطي سوى الإيمان به والاحتكام
الى قوانينه وليس الى أي شيء آخر. كما
لا شرط على عودة المعارضة المهاجرة سوى
أن تكون سلمية وعلنية، تنبذ العنف وتقر
قواعد العملية الديمقراطية، ولنثق
بالشعب وقدرته على رفض أو قبول أي موقف
أو اجتهاد سياسي يتعارض مع مصالحه
وتطلعاته.
أخيراً،
بعيداً عن التكهنات حول أسباب عودة
المناضل هيثم مناع معززاً مكرماً، أهي
حاجة أم مناورة سياسية أم استجابة
لضغوط خارجية، فإنها حدث ايجابي حقاً،
ملأ القلوب والنفوس فرحاً.
لكن
الفرحة على اتساعها تبقى فرحة ناقصة،
ويبقى الجرح مفتوحاً طالما هناك آلاف
المنفيين خارج البلاد ومئات المعتقلين
السياسيين قيد السجون .. فمتى تكتمل
فرحتنا وتلتئم الجراح؟!
*
كاتب سوري ـ دمشق
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|