صحافة
الإفلاس
لعل
ما ورد في عددنا رقم 77 تحت عنوان (الصحافة
الخاصة في سوريا هل هي مستقلة فعلاً) قد
أثار العديد من التساؤلات من قراء
مجلتنا الذين فوجئوا بما ورد في المادة
من خلال اللقاءات التي أجراها الزميل
علي حسون مع بعض أصحاب المطبوعات
الخاصة، وقد طلب إلينا عدد لا بأس به
توضيح القصد من تلك المادة، ولعل
الحديث عن تجربتنا التي يمكن أن نطلق
عليها اسم التجربة الصعبة التي عشناها
لسنتين متتاليتين هي خير شرح للقراء عن
واقع الصحافة الخاصة في سوريا
والسياسية منها خاصةً كون مجلتنا هي
الدورية السياسية الوحيدة التي صدرت
بعد أن رخّص لها إضافة إلى ست مطبوعات
تم الترخيص لها، لكنها لم تصدر حتى
الآن، وبتصورنا أن سبب عدم صدورها هو
عدم الجدوى الاقتصادية منها، بل
والمرجح تعرضها للخسارة، ولكن لماذا؟!..
لا
يمكن لمطبوعة دورية أن تغطي تكاليفها
من خلال المبيعات في الأسواق فقط لأن
كلفة المطبوعة عادةً تفوق سعر مبيعها
بأكثر من الضعف وذلك لأسباب تتعلق
بالسوق، طبعاً يدخل في ذلك أجرة
الطباعة وقيمة الورق والنقل وأجور
العاملين.. وحصة مؤسسة توزيع المطبوعات
(35% من قيمة الأعداد المباعة).. وبالطبع
فمعظم المطبوعات الدورية تستمد
تمويلها من الاشتراكات والإعلانات
المنشورة فيها إضافة إلى بعض
التحقيقات مدفوعة الثمن والتي تعود في
أغلب الأحيان لقطاع الأعمال، والمعني
بالإعلانات في سوريا هي المؤسسة
العربية للإعلان وتتقاضى 27.5% من قيمة
أي إعلان أو مادة إعلامية إعلانية
منشورة.
إن
المؤسسة العربية السورية للإعلان
ومؤسسة توزيع المطبوعات في سوريا
تتبعان إلى وزارة الإعلام مباشرة وهي
الوزارة المعنية بتطوير آلية عمل
المؤسستين والتي من المفترض أن تواكب
التطورات الحاصلة في الإعلام السوري..
فماذا حصل؟
مؤسسة
توزيع المطبوعات:
كان
إنشاؤها منطقياً في فترة لم يكن يصدر
في سوريا إلا الصحف الرسمية، ولذلك من
الطبيعي أن تحصل هذه المؤسسة على
التوزيع الحصري لهذه المطبوعات (إضافة
إلى توزيع المطبوعات غير السورية)،
ولكن ومع مرور الزمن تهالكت كغيرها من
مؤسسات القطاع العام، وأصابها الترهل
ولم يطرأ أي تحسين أو تطوير على
أدائها، ولم تصدر أي تعليمات جديدة أو
تعديلات لقوانينها تتلاءم مع المعطيات
الجديدة التي سمحت بوجود صحافة مستقلة
(قطاع خاص) ونرى أنه من الطبيعي أن
توزّع هذه المؤسسة المطبوعات الرسمية،
ولكن من غير الطبيعي حصر المطبوعات
الخاصة بها أيضاً حيث تقوم بتوزيعها
وفقاً لآلية توزيع الصحف الرسمية بل
باهتمام أقل بكثير، ويكفي أن نقول إن
مطبوعتنا التي تصدر كل إثنين تصل
أحياناً إلى بعض المحافظات الأربعاء
أو الخميس إلى وكيل المؤسسة في تلك
المحافظات حيث يقوم بدوره في أغلب
الأحيان بإهمالها وإرجاء توزيعها إلى
اليوم التالي لوصولها بانتظار الصحف
الرسمية كي يوزعها معها، مختصراً أجرة
النقل، وتكون الحال أن تصل المطبوعة
إلى الأكشاك والمكتبات التي بدورها
تركنها جانباً نظراً لتأخر وصولها،
ورغم جميع ما يحصل فإن مؤسسة توزيع
المطبوعات التي حصرت عملية التوزيع
بها (عدا المطبوعات التي توزّع مجاناً
فهي غير مسؤولة عنها) تتقاضى مبلغ 35% من
سعر مبيع المجلة لصالحها، هذا عدا
التوزيع العشوائي لمنافذ البيع،
فالكشك ذو الموقع الاستراتيجي والذي
يحتاج إلى عشرة أعداد مثلاً يُعطى
ثلاثة والكشك المنزوي الذي لا يمر من
جانبه أحد إلا نادراً يعطى أكثر من
عشرة، والكشك الذي يبيع عشرة هذا
الأسبوع يسلّم في الأسبوع الذي يليه
ثلاثة.. وهكذا، فالعمل كيفي إلى أقصى
حدود الكيفية، أما تقارير المبيعات
الصادرة عن المؤسسة فتشير إلى أن
المطبوعة غير مباعة وأن نسبة
المرتجعات كبيرة، وبالطبع فإن إدارة
المطبوعة تطلب رؤية هذه المرتجعات
الواردة في التقرير للتأكد منها وذلك
وفقاً للقانون، وهو ما ترحب به
المؤسسة، ولكن يضطر المراجع للذهاب
يومياً إلى المؤسسة ليعود خالي الوفاض
لعدة أسباب منها: (لم نقم بجمع
المرتجعات تعال غداً، أو ليس لدينا
الوقت الآن، أو.. أو..) وفي هذه الحالة
يضطر صاحب المطبوعة أن يوظف موظفاً
خاصاً لملاحقة المؤسسة وبذلك سيضيف
عبئاً على أعبائه المادية التي لا
تنتهي، وفي النهاية يكون جواب المؤسسة
بأن (المرتجعات قد أُتلفت)!؟
أما
صدقية تقرير التوزيع الصادر عن
المؤسسة فيمكن الوصول إليها من خلال
جولة ميدانية في المحافظات على جميع
الأكشاك ومحلات البيع لنكتشف أن
التقارير الصادرة عن المؤسسة غير
صحيحة وأن المطبوعة مباعة ومطلوبة
أيضاً، وفي بعض الأحيان يتم تناقل
المادة المطلوبة في المجلة من خلال
تصوير بعض صفحاتها، وبيع تلك الصور في
أحيان اخرى، بسبب فقدان العدد(عدد سجن
النساء- عدد تحقيق القامشلي الخ) !!؟
المؤسسة
العربية للإعلان:
عمل
المؤسسة فقط هو اقتطاع 27.5% من قيمة أي
إعلان أو مادة إعلامية إعلانية منشورة
في المطبوعة، وذلك دون أي مقابل، ويتم
تحويل قيمة الإعلانات فيما لو كان
مصدرها القطاع العام إلى المؤسسة
فوراً التي تقوم باقتطاع حصتها من
الإعلان أو المادة الإعلامية
الإعلانية، وتعود لتحاسب المطبوعة بعد
عدة أشهر وفقاً لمزاجية المكلف
بالمحاسبة، وإضافة إلى ذلك لا تعترف
المؤسسة بأي مادة إعلامية إعلانية
مجانية تنشرها المطبوعة إلاّ إذا كان
مصدرها القطاع العام، أما بالنسبة
لإعلانات القطاع الخاص فتعتبرها
مدفوعة الثمن دائماً وتقوم باقتطاع
نسبتها حتى إن كانت مجانية لا تعود على
المطبوعة بأي دخل، وتفاجأ المطبوعة
بأنها بعد أن تنشر المادة لديها مجاناً
لأسباب ترويجية تدفع لمؤسسة الإعلان
ربع قيمتها وكأنها مدفوعة الأجر! وهذا
يمنع المطبوعة من إجراء لقاء مع أي جهة
صناعية أو تجارية خاصة، وبالتالي
عليها الاتجاه نحو صناعات القطاع
العام فقط والذي بغالبيته إما يخفي
خسارته بخطابات لا توصل الصحفي إلى أي
نتيجة، أو يخفي أرقامه وسياسته ويفقد
بالتالي المطبوعة مصداقيتها! ويقول
القائمون على المؤسسة إن هذه النسبة
سمح لها بها مرسوم تأسيسها لأن المؤسسة
تسمح للمطبوعات بنشر الإعلانات! ولكن
في حقيقة الأمر أن نسبة 2.5% من أصل 27.5%
تذهب لاتحاد الصحفيين الذي لم يعترف
حتى هذه اللحظة بالصحافة الخاصة ولم
يوردها لا في نظامه الداخلي أو في
مقررات مؤتمره وكأن الصحافة الخاصة
وصحفيوها قادمون من عالم آخر، ولكن
قدومهم هذا لا يعفيهم من دفع الرسوم
التي لا تعود عليهم بأي شيء، ونسبة 5%
تذهب كرسوم لجهات أخرى أما الـ20%
الباقية ففي الحقيقة لم تحدد في
القانون الذي يتحدث عنه مسؤولو
المؤسسة إذ إن النسبة يحددها مجلس
الإدارة الذي بإمكانه تخفيضها في أي
اجتماع له، وهذا ما لم يحصل رغم
المطالبات المتكررة بذلك.
وزارة
الإعلام:
قامت
الحكومة بالموافقة على ترخيص ست
مطبوعات سياسية جديدة وسبع وعشرين
مطبوعة إعلانية مختلفة(توزع مجاناً)
دون النظر أو دراسة حاجة السوق لهذه
المطبوعات التي امتصت سوق الإعلان
كاملاً إضافة إلى اللوحات الطرقية
والتلفزيون، وبالتالي ابتعد المعلن عن
المطبوعات التخصصية (مثل السياسية
والاقتصادية وغيرها..) مما يؤدي إلى
الخسارة المحتمة لهذه المطبوعات،
وبالطبع هذا يفسر عدم صدور المطبوعات
السياسية الست التي تمت الموافقة
عليها لأنها ستكون خاسرة حتماً، وكما
سبق لنا القول بأن تمويل الصحافة يأتي
من رأس المال والاشتراكات والإعلانات
والمادة الإعلامية الإعلانية، وبما أن
هاتين الأخيرتين مفقودتان فسيبقى رأس
المال هو الممول الرئيسي مما يؤدي إلى
تراكم الخسارة في نهاية الأمر،
وبالطبع فإن غالبية أصحاب المطبوعات
السياسية في العالم لا يطمحون إلى
الربح بل إلى تغطية التكاليف، وهذا ما
لم ولن يحصل ضمن مثلث مؤسسة الإعلان
وتوزيع المطبوعات وسياسة وزارة
الإعلام في ترخيص المجلات الإعلانية
الفائضة عن حاجة السوق والذي هو أصلاً
يفتقر إلى الصناعة والتجارة
والفعاليات النشطة التي بحاجة إلى
الإعلان عنها، ولكن القوانين لم تنس
أيضاً فرض 35% ضريبة أرباح على
المطبوعات فيما لو ربحت، فتكون
الحصيلة كالتالي:
27.5%
حصة مؤسسة الإعلان (من قيمة الإعلان)
دون مقابل.
35%
حصة مؤسسة التوزيع (من قيمة المبيعات)
مقابل التوزيع العشوائي.
35%
ضريبة أرباح.
وهذا
ما لا يحصل في أي دولة في العالم.
إن
جميع ما سبق يجعلنا نصل إلى نتيجة
واحدة وهي تضييق هامش المناورة
للمطبوعة السياسية بسبب خسارتها
المادية، والأسباب واضحة كما أسلفنا
ويمكن معالجتها ولكنها لم تعالَج حتى
الآن لعدة احتمالات:
الأول:
أنه ليس لدينا الخبرات الكافية لتعديل
القوانين واتخاذ القرارات المناسبة
لحماية الصحافة المستقلة.
الثاني:عدم
إيجاد الجو الملائم للصحف التي تم
الترخيص لها (إذ إن غالبيتها العظمى لم
تصدر).
الثالث:عدم
الاكتراث لهذا النوع من الصحافة.
الرابع:
أن هناك من لا يريد لصحافة مستقلة أن
تنشط، رغم قناعتنا بأن هناك من يريد بل
ويشدد على ضرورة وجودها واستمراريتها،
وبناء على ذلك تم الترخيص لها.
أبيض وأسود
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|