مشاركات
صفحة
من حياة الراحل الدجاني
بقلم
: محمد الحسناوي*
وفاء
للأخ الراحل الدكتور أحمد صدقي
الدجاني ، الذي له في عنقي يد بيضاء ،
لا أنساها ، ولتاريخ جماعة الإخوان
المسلمين (في سورية ) الذي لم يُدوّن
بعد ..أكتب هذه السطور ، آمل أن يجعلها
الله تعالى في صفحة أعمالي الخيرة .
بمناسبة
وفاة الفقيد أبي الطيب كتب الكثيرون عن
حياته الحافلة بالعلم والعمل والخلق
النبيل ، لدرجة ظننتني في غنى عن
الكتابة عنه ، ومع ذلك ترجح لديّ
الإدلاء بدلوي ، وبحر الأخ الفقيد غزير
قراح ، وليست الرؤية أو المعايشة كالسماع .
الفترة
الزمنية التي تعرفت فيها إلى المرحوم
الدجاني ، هي فترة العمل العلني
للأحزاب السورية بعد سقوط حكم
الشيشكلي ( شباط 1954م ) وقبل قيام عهد
الوحدة بين سورية ومصر ( شباط 1958م ) ،
وهي المرحلة التي توصف بأنها ( مرحلة
التجمع والانتشار ) بالنسبة إلى تنظيم
الإخوان المسلمين ( انظر : موجز تاريخ
جماعة الإخوان المسلمين – في سورية –
ص89 – 95 ).
وللدقة
كانت صلتي بالدكتور الدجاني على
مرحلتين : أولاهما حينما كنت وإياه في
شمال سورية ، أنا في جسر الشغور ، وهو
في مدينة أريحا صيف 1954م ، هو متقدم علي
في التنظيم والدراسة والعمر ، أي حين
انتقلت من المرحلة الإعدادية إلى
المرحلة الثانوية ، وحين كان قد دخل هو
الجامعة السورية – قسم التاريخ من
كلية الآداب .
في
تلك المرحلة كان هو أحد النشطاء في
مركز أريحا لجماعة الإخوان المسلمين ،
وكنت أول انتسابي للتنظيم ، وعلى الرغم
من صغر مدينة أريحا ( ناحية ) بالنسبة
إلى مدينتا جسر الشغور ( قضاء ) كان
العمل الإخواني في أريحا هو الأسبق
والأنضج . ومن إدارة المركز : ( الإخوة
المحامي جلال حسون والفرّاء المنشد
أحمد البربور والأستاذ صديق البس
والأستاذ الدجاني ) رحمهم الله تعالى
جميعاً ، أخذنا ( أنا والأخ الأسير
إبراهيم عاصي ) ضوابط افتتاح مركز
للجماعة والمواصفات ، لا سيما الحيطة
في ضمانة نفقات استئجار المقرّ : أي
الاتفاق المسبق مع مجموعة من المنظمين
الموثوقين ، على النهوض بالنفقات ،
فيما لو انقطع الآخرون عن تسديد
الاشتراكات ، فلا يقع المركز الفتي
بعجز مالي ، مهما كان . أما الأستاذ
إبراهيم عاصي ، فهو المؤسس والمسؤول
الأول للجماعة في جسر الشغور منذ ذلك
الحين ، حتى لحظة اعتقاله ( نيسان 1980 ) .
كان
الأخ الدجاني آنذاك يعمل في ميدان
التعليم ، وهو طالب جامعي ، وكان يحب المطالعة ، ويوجه
أنظارنا إلى مؤلفات الكاتب ( ديل
كارنيجي ) ، مثل كتابه ( كيف تكسب
الأصدقاء ) ، وكان هو نفسه نموذجاً
عملياً لأقواله : شاب أسمر البشرة ،
ممشوق القد ، سامق القامة ، ممتليء
الجسم من غير سمنة ، بسام الوجه ، لا
تكاد الابتسامة العذبة تغادر محياه ،
مع صوت خفيض لطيف كالهمس ، وبحّة خاصة
في صوته ، ألوف حيي ، كالشامة بين
إخوانه .
أما
المرحلة الثانية ، فهي التقاؤنا في
دمشق العاصمة بعد ثلاث سنوات تقريباً ،
هو في الصف االثالث أو الرابع الجامعي
، وأنا في صف الشهادة الثانوية ( جودة
الهاشمي ) ثم قسم اللغة العربية في
الجامعة .
في
تلك الفترة كان هو مسؤول أسرتي
التنظيمية ، كما كان في قيادة العمل
الطلابي مع الأستاذ أكرم ... وصلتهما
مباشرة بالأستاذ عصام العطار والدكتور
السباعي رحمه الله تعالى .
رغبت
إليه في لقاءات الأسرة أن يجعل حصة
التوجيه من المادة العلمية في كتاب (التربية
الإسلامية) المقرر آنذاك لطلاب
الثانوية ، وكانت مادة غنية . وسبب طلبي
هو تشجيع زملائي الطلاب للانتساب إلى
الجماعة بعد حضورهم معي لقاءات هذه
الأسرة مع الأخ الدجاني ، وقد استجاب
للطلب بأريحية ونجاح .
وفي
تلك الفترة ، كانت الحياة السياسية
لسورية تعاني من تعاظم نفوذ (التجمع
القومي ) البرلماني الذي يقوده حزب
البعث العربي الاشتراكي ( بعد اندماج
البعث والاشتركي ) وكتلة من ضباط الجيش
والاستخبارات ، واتصال هذه الكتلة
بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر ،
تمهيداً للوحدة بين القطرين . ولم يرفض
الإخوان المسلمون الوحدة ، بل أصروا
على الوحدة الاندماجية بعد ذلك
، كما رفضوا التوقيع على وثيقة
الانفصال ، فيما بعد . ومع ذلك كانت
الخصومات السياسية الضيقة ، وصلت
بالمسؤولين عن ( الأمن) السوري ..آنذاك
للتحرش بجماعة الإخوان ، التي لم تكن
في ( التجمع القومي ) ، كمصادرة مجلتهم
الأسبوعية ( الشهاب) من الأسواق عرفياً
، أي بغير حكم قضائي ، وبإلقاء متفجرات
بجوار( المركز العام للجماعة ) أكثر من
مرة ، للإرهاب ، ولصرف الناس عن
الجماعة ، ولم تقع ضحايا ، والحمد لله .
في
تلك الفترة طلب منّا عريف أسرتنا (
مسؤولها ) الأخ الدجاني أن نحضر إلى مقر
( المركز العام للجماعة ) لحراسته ،
وذلك بالسهر طوال الليل ، والمصابيح
الكهربائية مضاءة في المبنى ، لإشعار
المعتدين بوجود مناوبين ، ولم نحمل
سلاحاً . وكان من أعضاء الأسرة الذين
أتذكرهم : الإخوة محمد بسام ، وأسامة ...
وفي تلك السهرة التاريخية علّمنا الأخ
الدجاني الأدعية المأثورة في الركوع (
سبَوح قدوس ربّ الملائكة والروح ) وفي
السجود ( اللهم اغفر لي ذنبي كلّه ،
دِقَّه وجِلَّه ، أولَه وآخرَه ،
علانيتَه وسِرَّه ) .
كانت
رسالة الدجاني الجامعية لنيل شهادة
الإجازة (الليسانس ) في قسم التاريخ من
كلية آداب جامعة دمشق ..هي بعنوان (
جماعة الإخوان المسلمين في سورية) ،
وقد رأيتها مطبوعة على ( الجستتنر) في
حوالي خمسين صفحة من قطع ( فولسكاب ) ،
وهذه جرأة أدبية منه ، وإخلاص لجماعته
، في أن يخصص عمله الجامعي للحديث عنها
.
ومن
الأيادي البيض للمرحوم الدجاني عليّ ..إسداؤه
النصيحة ، التي كان لها دور في حياتي
العلمية والعملية . فقد نجحت في مسابقة
( دار المعلمين العليا – كلية التربية )
، وهي فرصة نادرة لطالب مثلي ، لا تسمح
الظروف له بمتابعة الدراسة الجامعية
في العاصمة ، ومسكنه في شمال سورية .
ومن مقتضيات الدراسة ، أي نيل راتب
شهري ( للعزب 150 ليرة سورية ، والمتزوج
175 ل.س ) أن يلتزم الطالب بالتوقيع
للدولة على عقد ، يوافق بمقتضاه على أن
يدرّس في المدارس الإعدادية والثانوية
السورية ثلاثة أضعاف مدة دراسته
الجامعية ( 4 سنوات للغة العربية و1 سنة
دبلوم عامة في التربية ) أي 15 خمس عشرة
سنة ، فأجفلت من شرط الارتباط بعمل ما
لمدة خمس عشرة سنة ، فنقلت مخاوفي إلى
عريف أسرتي ( وهو بمثابة أبي وأخي
الكبير ) ، فابتسم ، وقال : طيب ماذا
تريد أن تدرس في الجامعة ؟ قلت له : لغة
عربية ، أي القسم الذي سوف أدرس فيه على
حساب كلية التربية . فقال لي : وماذا
ترغب أن تعمل بعد التخرج من الآداب ؟
وكأن هذا السؤال لم يخطر ببالي من قبل ،
وأنا أعيش في المثاليات وهواية الأدب .
بعد تفكر قليل ، قلت له : سوف أعمل في
الصحافة . أشرق وجهه مرة ثانية ، وقال :
وهل الصحافة تطعم خبزاً اليوم ؟ فقلت:
ما العمل إذن ؟ قال باطمئنان : إن
مستقبلك هو أن تكون مدرس لغة عربية ،
دخلت كلية التربية ، أو لم تدخل ، لكن
توقيعك لهذا العقد – وهو تحصيل حاصل –
يعينك على الدراسة براتب شهري من
الدولة حتى التخرج والانتقال إلى
الوظيفة ، كما أن هذا العقد يضمن لك
موقعاً في وزارة التربية والتعليم منذ
الآن ، على حين أنت مضطر إذا درست على
حسابك ، ولم توقع هذا العقد ، إلى
التقدم إلى مسابقة جديدة لانتقاء
المدرسين ، وتخضع لاحتمال النجاح أو
الرسوب من جديد ، فما رأيك ؟ قلت : سوف
أوقع فوراً راغباً ، مطمئن البال .
وهكذا كان . وجاءت أيام تمّ فيها إلغاء
نظام ( دار المعلمين العليا) بعدنا
مباشرة ، كما صارت المسابقات في وزارة
التربية للمدرسين ، ليست وقفاً على
الكفاءة – للأسف – بل للولاءات
الحزبية ، بل محجوبة على الإسلاميين ،
ولا سيما خريجي كلية الشريعة ، وتفاقم
الأمر إلى حدّ النقل التعسفي للمدرسين
الإسلاميين إلى أعمال حكومية شكلية ،
مثل مكتب دفن الموتى . وفي الثمانينات
من القرن الماضي ، تطور الاضطهاد إلى
إقامة مجازر جماعية في التعليم
والقضاء وغيرهما من المؤسسات . ثم
يسألونك : لماذا نحن متخلفون ؟
على
أن آخر ذكرى أحفظها للأخ الدجاني تصديه
في عهد الوحدة بين القطرين للكاتب
المصري ( غالي شكري ) ، وهو معروف
بمغالاته في حب الثقافة الغربية ،
والتشنيع على الحضارة العربية
الإسلامية ، وهو في الوقت نفسه
أمين على خط خاله الكاتب سلامة موسى ،
يمجد أفكاره ، وينتصر له . فقد نشرت
مجلة ( الآداب ) اللبنانية الشهرية –
وكانت آنذاك طليعة الأدب العربي
القومي ... مقالة لغالب شكري سفّه فيها
التراث العربي الإسلامي ، وبتحامل
مكشوف ، يزعم فيه الفضل كله للغرب
والحضارة اليونانية بالذات . فنهض
للردّ عليه كل من المرحوم الدجاني
والدكتور محمد عادل الهاشمي ،
بمقالتين موضوعيتين دامغتبين في عدد
واحد من المجلة ، كان عنوان إحداهما ،
كما أذكر : ( حضارتنا ثورة عقلية ) .
هذه
بعض ذكرياتي عن الأخ الدجاني قبل
ارتحاله إلى القاهرة ، لمتابعة
الدراسة العليا ، وتدريسه في إحدى
جامعاتها ، وعمله في ميدان القضية
الفلسطينية عضواً مؤسساً لمنظمة
التحرير الفلسطينية ، وعضواً في
مجلسها التشريعي ، ثم نائباً لرئيس
المنظمة العربية لحقوق الإنسان ، وغير
ذلك من الأنشطة ، ونشره الكتب ، وحضوره
المؤتمرات ، وإسهامه الناجح
في قيادة ( المؤتمر القومي )
الإسلامي ، وغيره من المؤسسات العربية
والإسلامية .
أولئك
إخواني ، فجئني بمثلهم
إذا جمعتْنا يا جريرُ المَجامعُ
*
عضو المؤتمر الأول للحوار الوطني
السوري - لندن
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|