شرق
وغرب
في
الحوار مع السيد دوفيلبان
في
كلمة مطولة وشاملة ألقاها السيد وزير
الخارجية الفرنسي (دومينك دوفيلبان) في
(ندوة المجلس المصري للشؤون الخارجية)
في القاهرة في 12/4/2003، أكد فيها على
التصورات والحلول الفرنسية لقضايا
الشرق الأوسط، وفي إطار عرض رومانسي،
انسابت أفكار السيد الوزير غزلاً
وخدراً للحضور، ولشعوب المنطقة ربما.
وكانت أفكار دوفيلبان نهائية قاطعة،
بل نتائج حتمية لقوي يريد أن يجبر (خاطر)
بعض الضعفاء، وهو يعفيهم من مسؤولية
ضعفهم، ويزين لهم الانخراط في لعبة
الأقوياء، على طريقة الأقوياء أنفسهم.
الذي
دفعنا إلى الإمعان في الأنشودة
الممتعة والمليئة بالوعود السخية
للسيد دوفيلبان، هو تصريحه بأن كلمته
موجهة إلى رجال هذه المنطقة ونسائها: (أريد
أن أتوجه اليوم إلى رجال هذه المنطقة
ونسائها أود أن أسبر معكم طريقة
الحرية، وأستجوب سبل الحداثة، وأسائل
تلك الهوية، وهي منبع آلام الكثيرين،
لكنها تنطوي في الوقت نفسه على وعود لا
تحصى...)
ومن
هنا نجد أنفسنا ضمن دائرة عناها السيد (دوفيلبان)
في خطابه، بحيث لا نبدو كمتقحمين حين
نحاول أن ننشئ معه جسر هذا الحوار.
ابتداء
سيسرنا أن نسجل تقديرنا للموقف
الفرنسي الأصيل (الشعب والحكومة) من
العدوان على العراق الشقيق. وأن نستشعر
عظمة الشعب الفرنسي من خلال تاريخه
الذي وضع أسس الحرية للغرب، والذي نصب
أمثلة إنسانية بطولية من أمثال جان
دارك، ومبدئية من أمثال الرئيس ديغول،
هذه الأمثلة التي تبز في جوهرها برج
إيفل سمواً وعلاء.
الغرب
والشرق: مَن ومَن
في
رؤيتنا أن المجانبة الأولى في الموقف /الغربي/
السياسي والثقافي، هي أنه يبحث عن شهود
وأعوان، يؤيدونه، لا عن محاورين يسعون
معه إلى الحقيقة، أو إلى العلاقة
الحضارية المنتجة.
على
سرير نابليون ولدت علاقة غير شرعية
وغير حقيقية بين الشرق والغرب في العصر
الحديث. كان مشروع العلاقة استعلائياً
احتوائياً ومن هنا فقد سارت هذه
العلاقة خلال قرنين من الزمان في
دهاليز مواربة فلم تنتج قط ما فيه
مصلحة الشريكين اللدودين.
بدأ
التأسيس الخاطئ لهذه العلاقة بازدراء
الآخر، وإقصاء القوى الحقيقية الممثلة
للشعوب العربية والإسلامية، أو
تجاهلها، واصطناع قيادات سياسية أو
ثقافية مطواعة يظن فيها الغرب من
القدرة والذكاء ما يخولها أن تغير
طبيعة الشرق فتجعله غرباً. وكم يذكرنا
هذا الموقف الغربي، بذلك العربي الذي
كان بسذاجته في الجاهلية يصنع لنفسه (وثناً
من تمر ليعبده) حتى إذا جاع أكله. ألا
يبدو أن الغرب، وعلى رأسه الولايات
المتحدة اليوم، بدأ يأكل أو يحت
الزعامات السياسية والنخبوية التي
اصطنعها وفرضها، ثم شعر أنها لا تستطيع
أن ترسي له ما يرغب فيه من دعائم
السيطرة والاستحواذ؟!
لنأخذ
مثالاً مبسطاً في الوضع الفلسطيني، لا
ياسر عرافات ولا أبو مازن، ولا القبعة
التي أطلق عليها الممثل الشرعي
والوحيد للشعب الفلسطيني، يستطيع أن
يحتكر تمثيل هذا الشعب. وكذلك ولا
الأربعة الذين وضعوا خارطة الطريق !!
الحريصون
على وضع أسس سليمة للعلاقة عليهم أن
يتوجهوا إلى القوى الحقيقية والحية
الممثلة للشعب الفلسطيني، وأن
يتحاوروا معها، قد يطول أمد الحوار،
ولكن النتائج ستكون مثمرة.
الهروب
من المحاور إلى الشاهد، هو الفعل الذي
كرس الأزمة بين الشرق والغرب. وحمّل
اللحظة إثم القرون. وجعل أبناء الشرق
الحقيقيين يعيشون في مربع الإقصاء
والتغييب والتجاهل.
حتى
عندما اختار هؤلاء الحقيقيون سلم
الديمقراطية، رأى الغرب لنفسه الذريعة
لينقلب عليهم، وكان لفرنسا يد في
إقصائهم. ويوم ترك الغرب المستعمر
البلاد العربية منذ أواسط القرن
الماضي، أسس للاستبداد. ظن الغرب أن
المستبد سيكفيه المؤنة، ويحقق بدلاً
منه الغاية. لم يتعلم من دروس التاريخ
أن هذا الإنسان، الذي يبدو ساذجاً، عصي
صعب المراس. اليوم يعاود الغرب
الكرة، يعود بمشروعه إلى المربع
الأول، الاحتلال فرض المقدمات
والمدخلات تزييف التاريخ والواقع،
زخرفة الشعارات، لا نظن أن التجربة
الجديدة بمنطلقاتها الخاطئة ستكون
أفضل.
نؤكد
للسيد دوفيلبان إننا حريصون على
التعاون مع الجميع، في إطار ما دعاه العولمة
المؤنسنة التي نعتبرها أساسية
وأصيلة في خطابنا وفي موقفنا. ولكن
لإنجاح (مشروعنا). و(نا) بالنسبة إلينا
تستغرق دائرتين الأولى: خصوصيتنا التي
اعترف السيد دوفيلبان أنه يحترمها من
خلال احترامه لخصوصيات الشعوب (على كل
بلد أن يتقدم وفق وتيرته في إطار
احترام تقاليده واختلافاته).
والثانية هي دائرة المشترك بيننا، وهي
دائرة لها آفاقها الاشتمالية:
الحضارية والتاريخية والجغرافية
والإنسانية.
السيد
الوزير
وفي
إطار الدوائر هذه ستتأكد الروابط التي
تجمعنا في مراحل التاريخ الثلاث
القديم يوم نهلت أثينا من حضارة الشطآن
الشرقية للمتوسط، والوسيط يوم كانت
الأندلس بوابة العبور للعلوم والمعارف
والمناهج والآداب والعادات
والتقاليد، كما الحروب الصليبية
بوجهيها العسكري والحضاري، ثم التاريخ
الحديث في التجربة الاستعمارية بعد
الحربين العالميتين الأولى والثانية،
ولعلكم تدركون مدى شعور شعوب المنطقة
بالمرارة حين تتذكر (سايكس ـ بيكو) التي
كانت الثمن المر لنصر كنا شركاء فيه
وأعنا عليه !!
في
إطار الروابط نتوقف عند إشارة السيد
الوزير إلى السيد المسيح عليه السلام،
متألمين من وصفه إياه ابتداء بأنه (طفل
يهودي) ثم إنه (مؤسس المسيحية). نحن
عندما نتحدث عن أنبياء الله، نحب أن
نحيطهم بقدر أكبر من الاحترام
والقداسة، وكذلك عندما يذكرون أمامنا.
إن ما تحمله السيد المسيح عليه السلام
من آلام ومصاعب ليحمل البشارة والخلاص
إلى العالم، وكذا ما تحمله نبي الله
يحي (يوحنا المعمدان) وما تحمله من قبل
موسى عليه السلام الذي جاء بالتوراة
فيها هدى ونور. أكبر من أن يوفيه إنسان
حقه، أو أن يشير إليه إشارة عابرة في
تاريخ الحضارة والإنسان.
من
جهتنا نحب أن نؤكد أن القيم السامية
التي جاء بها إبراهيم وموسى وعيسى
ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، هي
التي تحفظ على الإنسان إنسانيته، وهي
التي يمكن أن تجمعنا أكثر فوق جميع
الروابط الأخرى. هذه القيم التي خرجت
من مشكاة واحدة، والتي تعلي قيمة
الإيمان، وتوحد نظرتنا، إلى الكون
والحياة والإنسان، وتحدد لنا، وهذا
مهم جداً، حقائق الخير والشر، والظلم
والعدل، والحق والباطل، والجمال
والقبح. هي معقد الأمل الأول في لقائنا.
نحن نتخوف (غولاً) اسمه المادية أو (الرأسمالية)
أو (الامبريالية) بدأ يزحف على هذه
القيم ليغير معالمها، وليزدري الرحمة
والمحبة والإخاء والتسامح والعدل
والمساواة، وليفلسف القسوة والكراهية
والتعالي والتعصب والظلم !!
لا
نتنكر للروابط الجغرافية والتاريخية
والثقافية التي ركز عليها السيد
الوزير، ولكننا نؤكد أن منطقتنا التي
أهدت المسيح للعالم وللغرب تطالب
الغرب بأن يكون وفياً للقيم العظيمة
التي نادى بها المسيح عليه السلام. ذلك
أن جوهر القيم في الأديان الثلاثة هي
دعوة إلى البر والخير والعدل والإحسان
ونهي عن الظلم والبغي والفحشاء. وهذه
القيم هي مناط اللقاء أو الفراق.
حول إيديولوجيا الانحطاط ...
يحذرنا
السيد الوزير من الاستسلام
لإيديولوجيا الانحطاط، التي لا خلاص
فيها ولا حافز. نشكره، ونؤيده، ونذهب
معه في رفض هذه الإيديولوجيا،
منطلقاتها ووسائلها وأهدافها إلى أبعد
مما يريد.
في
تصورنا أن (إيديولوجيا الانحطاط) الذي
نعيش، ونقر أننا نعيشه شعوباً وأنظمة
ليس نبتة محلية، بذرتها الموجودة في
بنية كل الحضارات وأنصاره المنتشرون
بين كل الشعوب، وجدت ماءها من المخططات
التي فرضت علينا. بعض عوامل نموها
ذاتي، نبع من ظروفنا، وبعضها الآخر
خارجي، فرضه الآخرون علينا بفضل ما
يتمتعون به من قوة وسلطة حضارية ومادية.
إن
شعوبنا تصبو كما يقول السيد الوزير إلى
الحرية والأمن والعدالة. ولكن السؤال
الذي يلح علينا هنا: هل ما يدعونا إليه
السيد الوزير من حرية وأمن وعدالة
ينبغي أن يكون منحة من الآخرين، وفي
حمايتهم، ومرتبطاً بمشيئتهم، أو أن من
حقنا أن نكون قادرين على صنع حريتنا
وأمننا وعدالتنا، وحماية هذه الحقوق
الطبيعية، كما يحمي الشعب الفرنسي
العظيم حقوقه ؟!
لماذا
يفرض علينا أن نصنع أمننا وحريتنا
وعدالتنا في قوس ترسانات الأسلحة
الدولية والإقليمية ويحظر علينا أن
يكون لنا ما يدفع عنا ؟!
كيف
سيكون أمننا، وشارون الذي يحاول السيد
الوزير أن يسقينا إياه، باسم السلم
والمحبة والتعاون، يمتلك ترسانة نووية
يمكن أن تبيدنا جميعاً في لحظة وميض.
فرنسا
وأوروبة وكل العالم، كانت ضمن القائمة
التي أنكرت، وماتزال تنكر على العراق،
وعلى شعوبنا، إرادة امتلاك سلاح
للدفاع عن الذات !!
إيماننا
بـ (الديمقراطية) في صيغتنا الحضارية
الخاصة والمعنون بـ (الشورى) غير
محدود، من المناسب أن نشير إلى السيد
الوزير بموارد جان جاك روسو،
ومونتيسيكو العربية الإسلامية.
ولا
نظن أن السيد الوزير مأخوذ بأن يقنعنا
بالديمقراطية، وإنما الذي نريد أن
نستدرك عليه، أن الاستبداد العربي
الحديث كان وليد التجربة الاستعمارية.
والذي نريد أن نؤكد عليه أكثر، أن على
الغرب أجمع أن يقبل مخرجات التجربة
الديمقراطية، لا أن يصادر عليها. إن ما
جرى في الجزائر، وفي كثير من الأقطار
العربية والإسلامية، حيث يعتمد
الاستبداد كخيار أقل سوء من بديله
الديموقراطي، يعتبر مخيباً للآمال.
كما أنه مولد للغضب والنقمة ومحبط
لدعوات الاعتدال، ومغذٍ لذرائع
الإرهاب.
الحداثة والإسلام،
الأصولية والإرهاب
تتوقف
صحة تقرير السيد الوزير، أنه لا يوجد
تعارض بين الحداثة والإسلام، على
تحديد معاني الحداثة وحقيقتها،
فالحداثة في جوهرها، تحدد موقف
الإنسان من (الكون)، وتدفعه إلى
التعامل مع الآخرين بروح إيجابية
منفتحة، وتوظف الكون المسخر لخدمة
الإنسان وهذه من صميم الإسلام. أما
الحداثة بمعنى الانخلاع من القيم،
والردة إلى مجتمعات ما قبل المدنية
فليست من الحداثة ولا من الإسلام في
شيء.
وحديث السيد الوزير عن (الأصولية)
وعن (الإرهاب) حديث عن مصطلحات لم تتحدد
مضامينها. وحرب المصطلحات في تاريخ
الفكر الإنساني هي أعتى الحروب. وما لم
تتحدد معاني المصطلحات ستظل الشعوب
تتنابذ الاتهامات. هل من الإرهاب ما
فعلته الولايات المتحدة في العراق ؟ هل
الإرهاب هو فعل الإنسان الفلسطيني
المقاوم الذي سلبت أرضه ودياره وحريته
وأمنه ورغيف خبزه، أو هو الفعل
الصهيوني، المغتصب المدجج بآلة القتل
العالمية، وبالحماية القانونية
الدولية ؟!
شعوبنا
تنظر إلى مصطلح الإرهاب بكثير من
الريبة، وترى فيه ذريعة لإعلان الحرب
عليها، وحجراً على حقها في المقاومة
للدفاع عن ذاتها، وهي تخوض معركتها
لتنال (حريتها وأمنها) كما زين لها
السيد الوزير ذلك.
كان
رجال فرنسا الحرة وأنصار الرئيس
المحرر ديغول إرهابيين في نظر
النازيين وأتباعهم من حكومة فيشي. فإلى
أي الجانبين ينحاز السيد الوزير ؟! إن
المضامين الإنسانية ليست مزاجية، لا
بد من معالم ثابتة توضح دوائر الحق
والباطل.
نصر في هذا السياق على ضرورة
تحديد معنى المصطلح وأبعاده، وأن يتم
التمييز بين مقاومة المستضعفين
المشروعة وبين الإرهاب. وكذا لا بد من
إعطاء الأولوية في الرفض لإرهاب
الأقوياء: الدول والجيوش على إرهاب
الأفراد والجماعات. إذ أن الثاني مشتق
من الأول وهو صورة من صور الاحتجاج
عليه.
المقابلة
المحزنة مثلها موقف السيد الوزير بيده
الممدودة للذين يثقون بالإنسان. حيث
ألقى على أمتنا ثوب التعصب وعدم التفهم.
ألا يعتبر هذا الموقف ضرباً من
التعالي، وازدراء الآخرين. حتى وإن
خالفك هؤلاء الآخرون في الكل والجزء،
أليس من حقهم ذلك ؟! أليس من حقهم أن
يدرسوا طروحاتك وأفكارك فيقبلوا
ويرفضوا حسبما يتبدى لهم. ورفضهم
لطروحاتك أياً كان جمالها وألقها ليس
تعصباً بل هو بعض حقهم الطبيعي.
مشكلتكم أنكم تريدون أن
تعطوا الشعوب الحرية في تقليدكم
واتباعكم، والسير على خطاكم وتأمين
مصالحكم فإن اختارت غير ذلك اتهمتموها
بالتعصب وانعدام الفهم ثم بالأصولية
والتطرف ثم الإرهاب ثم أعلنتم عليها
الحرب !!
وإذا
كان السيد الوزير قد مد يده نحو الذين
يثقون بالإنسان، من جهتنا
ستكون يدنا ممدودة نحو الذين
يحترمون الإنسان.
في السلام والقضية
الفلسطينية
الحوار
في هذه القضية سياسي وليس فكرياً، وهو
حوار طويل. وما قدمه السيد الوزير لحل
الوضع على الأرض الفلسطينية، هي
مقررات، مقررات قررها المغتصب للحق
وداعموه، وفرضوها على الضحية
والمظلوم، زركشوها وزينوها، غيروا
الأسماء، تلاعبوا بالحقائق قفزوا على
التاريخ والجغرافيا، كل هذا لا يهم،
المهم هو أن مقررات الأمم المتحدة طيلة
نصف قرن، ومقررات الأربعة الذين وضعوا
خارطة الطريق هي التي تحمل العدالة
والسلام !!
السيد
الوزير، يريد من الشعب الفلسطيني كما
يصرح، أن يدفع ثمن /الجريمة البربرية
النازية/ (إن فرنسا لن تقبل يوماً بأن
يعاد النظر في وجودها (أي إسرائيل) الذي
اعترفت به الأسرة الدولية من خلال
الأمم المتحدة غداة البربرية النازية،
أو أن يهدد هذا الوجود..)
أليس من حقنا أن نقول للسيد
الوزير إن جريمة اغتصاب فلسطين وتشريد
أهلها في مسلسلها الدامي والإنساني،
هي أبشع وأقسى من جرائم النازية على
رفضنا لما ما فعله النازي ليس باليهود
فقط، وإنما بالعالم الحر أجمع.
(كل يؤلمه جنبه)
إن فلسطين هي الجنب الذي يؤلم أبناء
هذه الأمة. وكان الأولى بفرنسا أو
ألمانيا أو بريطانيا وهم من أقطاب
الحرب مع النازية أو ضدها، أن يحلوا
مشكلة اليهود من أوطانهم وبين
ظهرانيهم، لا على أرض بعيدة وعلى حساب
شعب مستضعف !!
نحن ساميون ... ولا مشكلة لنا
معنا اليهود
لعل
من المفيد أن نذكر السيد الوزير أن
شعوبنا العربية ولغتنا العربية هي
مادة الوجود السامي في صيرورته
التاريخية. وإننا لم نكن أحسن حالاً في
المكانة العرقية للترتيب النازي !! إذا
اتهم الجميع بالعداء للسامية، فلا
ينبغي أن تتهم شعوبنا بذلك، ولا يصح
هذا الاتهام !!
نحن الذي علمنا العالم أجمع
التعايش بين الأديان. وعندما أقام
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المجتمع
المسلم الأول في المدينة، بادر إلى وضع
وثيقة المواطنة التي تحمي حقوق (اليهود)
وتحدد مسؤولياتهم. في عصر كانت فيه
الوثائق السياسية بعض الترف في هذا
العالم.
افتتح
المسلمون بلدان الشرق والغرب، وأسسوا
سنة التعايش بين الأديان والأعراق.
احترموا في الإنسان الإنسانية، ووثقوا
وجوده بالحرية (متى استعبدتم الناس وقد
ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟!!) عاش في قلب
المجتمعات الإسلامية: اليهود والنصارى
وغيرهم. وشاركوا في الحياة العامة، في
الثقافة والفكر والحضارة.
محاكم (التفتيش) ليست
اختراعاً إسلامياً. المسلمون الذين
أسسوا الحضارة في الأندلس ونقلوا
الثقافة والعلوم والمدنية وقيم
الفروسية وآداب الحب والغزل إلى حدود
فرنسا، أذيبوا عن بكرة أبيهم.
ونالت المحنة /النازية/ الأولى
المسلمين كما نالت اليهود. وفتح
المسلمون صدورهم وديارهم لنظرائهم في
الإنسانية، وشركائهم في الانتماء إلى
إبراهيم وموسى.. كان اليهودي يجد أمنه
وأمانه كما المسلم في ظل الحضارة
الإسلامية في المغرب ومصر والشام
وبغداد التي قصفها بالأمس المتغطرسون
الجدد.
لو
أن اليهود الذين يشير السيد الوزير إلى
مأساتهم الإنسانية، على يد النازية،
أرادوا في الشرق مجتمعاً منفتحاً يوفر
لهم الحماية والكرامة، لوجدوا ذلك في
كل حاضرة من حواضر مصر والشام والعراق.
ولكنهم أرادوا كياناً
استعلائياً تسلطياً، ينزع الإنسان من
جذوره ليحل غريب محله، لم يأتوا إلينا
خائفين يطلبون أمناً، وإنما جاؤوا
يحملون مشروع هيمنة يعكس كل معاناتهم
التاريخية على من يظنون فيه الضعف
والخور.
السيد الوزير يبشر بدولتين...
دولة
تمتلك ترسانة من أسلحة البر والبحر
والجو كما تمتلك أسلحة الدمار النووي
والكيماوي والبيولوجي، وكيان أعزل
تحصى بنادق رجال الشرطة فيه. ثم يريدنا
أن نصدق بأنهم يسعون إلى العدل
والعدالة لإنسان فلسطين !!
لفرنسا
أن تعترف بدولة إسرائيل، وللولايات
المتحدة أن تفعل ذلك، ولكل العالم أن
يفلسف الجريمة /النازية/ الجديدة كما
يريد، ولكن القرار النهائي في هذا هو
لصاحب شجرة الزيتون، الذي يعض على
جذعها، القرار له ولبنيه من بعده.
القرار له وحده، والمعركة معركة أجيال.
وأسأل الملك لويس الرابع عشر عن دار
ابن لقمان. واسأل عن صلاح الدين ولن
ينبئك مثل خبير.
الإملاءات
على
الرغم من الديبلوماسية الشديدة،
والأناقة المقصودة، وألفاظ الحرية
والديمقراطية والإخاء والثقة
بالإنسان، يتسنم السيد الوزير، موقع
القوة الذي يعتمد عليه ليصدر إملاءاته
على السادة المستمعين من السياسيين
الذين كانوا أشد حياء في حضرة الوزير.
المعضلة
التي نحوم حولها مع من أول الخطاب
الوعد، هي النبرة الاستعلائية، روح
المعلم أو المبشر، أو أسلوب الإملاءات.
إن انتماء السيد الوزير إلى دولة أو
إلى شعب أقوى وأغنى، لا يعني أنه أقدر
على الرؤية، أو الفهم، كما لا يسوغ له
ذلك احتكار الصواب.
هذه
المفارقة بين (القوة) و(الغنى) و(العقل)
يغفل عنها كثير من الناس.. ومن هنا فإن
من حقنا أن ننتبه إلى تلك الإملاءات
التي انتهى إليها السيد الوزير في
حديثه عن تصور سلمي للمنطقة، ولكي لا
نطيل الحوار ننقل جانباً من هذه
الإملاءات التي هي في أحسن أحوالها
مداخل لحوار عميق الأبعاد.
من
الجهة الفلسطينية إن التخلي عن العنف
الذي لا يقدم أي مخرج ضروري أكثر من أي
وقت مضى.. !!
على
جميع ـ لاحظ الإملاء ـ البلدان العربية
أن تقبل بإسرائيل كدولة في هذه
المنطقة، وأن تعترف كلياً بهذا البلد
المجاور، مع إعطائه ضمانة السلامة، مع
تطوير علاقات طبيعية معه في إطار
السلام.
عندما يتحدث السيد الوزير
عن إسرائيل، وليلاحظ أننا ندرك
المفارقة حتى في أسلوب الخطاب لا يقول (على
إسرائيل أن تنسحب من الجولان..) وإنما
يكون أكثر ديبلوماسية فيقول بأدب بالغ
جم (هل للوجود الإسرائيلي في الجولان
مبرر أمني ؟)
وإذا كان الجواب الإسرائيلي
نعم، فسيكون من حق إسرائيل البقاء في
الجولان ؟! أليست هذه هي مدلولات
الخطاب.
والسيد
الوزير، مع فائق الاحترام، يطالب
الدول العربية أن تعطي إسرائيل ضمانة
السلامة ؟! من يضمن سلامة من ؟! ألا
يلاحظ السيد الوزير، أن المعادلة
مقلوبة ؟!
إسرائيل
التي تمتلك ترسانة متنوعة تتفوق على ما
تملكه الدول العربية والإسلامية
مجتمعة. إسرائيل التي تجد الدولة
الكبرى في العالم تحارب عنها بقرار
صهيوني محض. إسرائيل التي تستمع إلى
صوت فرنسا (الحرة) وصوت أوروبا كلها،
يهمس في أذنها بخشوع !! تحتاج إلى ضمانة
سلامة من الأنظمة العربي والدول
العربية، من أبناء المخيمات، أو من
المثخنين بالجراح،، سيادة الوزير،
ضعفاء وفقراء نعم، ولكننا نملك القلوب
والعقول !!
إعادة الثقة ... والتكافل
الإقليمي
إعادة
الثقة عنوان جميل بلا شك، ومطلب أساس،
ولكن الثقة تكون بين طرفين فمن هما
هذان الطرفان في خطاب السيد الوزير.
العراقيون
والإيرانيون، العراقيون والكويتيون،
المغرب وأبناء موريتانيا، الدعوة إلى
إعادة الثقة بين هذه الأقطار مطلب ملح،
المطلب هو تجاوز مرحلة الثقة إلى مرحة
الاندماج على نحو ما فعل الأوروبيون.
إعادة
الثقة مع الآخر، الأوروبي أو الأمريكي.
دعنا نكون صريحين لنقول إن لفظ (إعادة)
تستعمل على شيء كان موجوداً ثم غاب !!
حصل في فترات مختلفة من التاريخ الحديث
أن بعض بني قومنا (وثقوا) بالوعد
الغربي، في الحرب العالمية الأولى
والثانية وفي السابعة والستين.. ولكن
كانت عواقب تلك الثقة التي راهن عليها (البعض)
ونؤكد هنا على قولنا البعض وخيمة.
نحن
نحتاج إلى بناء (الثقة). وبناء الثقة
يتم بمصداقية الطرف الفاعل الذي
تمثلونه، لا الطرف المنفعل الذي تمثله
شعوبنا، والتي تحاول الخروج منه،
فتصادر إرادتها كلما قاربت ذلك.
إشارة
الوزير إلى الطرف الإقليمي (المرفوض)
ستأتي إشارة إلى ما لا يمكن أن يكون.. إن
تأمين (التكامل الإقليمي) حسب نظرية
بيريز أو الحلم الصهيوني مطلب بعيد
المنال. إنه مرفوض في ضمير الإنسان قبل
موقفه,
إن
دغدغة المشاعر دائماً بالحديث عن (التنمية)
و(الاستثمار) ينطلق من خلفية حضارية
تجافي قول السيد المسيح (ليس بالخبز
وحده يحيا الإنسان). إن وجود فئة من بني
قومنا تبشر بمستقبل تنموي استثماري،
لا يعني أن شعوبنا ملهوفة على (الرغيف).
من أمثالنا التراثية الشائعة (تجوع
الحرة ولا تأكل بثدييها)، وعندما تخير
شعوبنا بين الرغيف وبين كرامتها،
فإنها ستختار كرامتها بالتأكيد.
الأمن
الإقليمي سيتحقق، والاستقرار في
بلادنا سيتحقق عندما يتحقق العدل حسب
مفهوم أبناء المنطقة أنفسهم، لا حسب ما
يتصور أصحاب المآرب والأطماع.
إن
الحديث عن دولة القانون والحكم الرشيد
واستقلال النظم القضائية حديث شهي
ملق، نحن نريد كل ذلك مدخلاً لمشروع
يضمن كرامة الإنسان، لا مدخلاً فقط
لعملية تنموية. إن الدوران في أفق وعود
الخصب يؤكد بوضوح أن الساسة
الأوروبيين، ومنهم السيد الوزير، لا
يدركون معاناة إنسان المنطقة، حقيقتها
وأبعادها. إن تفسيراتهم المادية لكل
أوجه النشاط الإنساني، الرافض للعدوان
على حق الإنسان في الاعتقاد وفي
التعبير، تؤكد مرة أخرى أنهم يهيمون في
بيداء، أو أنهم يلجؤون عن عمد إلى
عملية تحويل حقيقية تعمية على الأهداف
العامة للمجتمعات.
من القدس ... إلى بغداد
في
حالة من العمى المدجج بالقوة، لم ولن
تستطيع الولايات المتحدة أن تعي عمق
الجرح الذي خلفته في كبرياء أمة عندما
اجتاحت بغداد. لا ندري إلى أي حد من
الازدراء ينظر الرئيس بوش إلى الأم
العراقية، وهو يسعى ضمن حملته (قلوب
وعقول) إلى تعويضها عن ولدها أو عن
زوجها بوجبة (ماكدونالدز) أو (كنتاكي).
إن
مشكلتنا مع الغرب أنه خلال نصف قرن مضى
أناط مشروعه الثقافي والحضاري في
بلادنا بالاستبداد والمستبدين، وراهن
عليهم، ودعمهم، وغذاهم ضد شعوبهم. ومن
حقنا هنا أن نذكر موقفاً للرئيس شيراك
يوم كان وزير خارجية لفرنسا في
الثمانينات. عندما عرضت المجموعة
الأوروبية الوقوف عند بعض التصرفات (الإرهابية)
لدولة عربية. قال لهم الوزير شيراك
يومها (لا تنظروا إلى قنبلة تفجر هنا
وطائرة تخطف هناك ولكن انظروا إلى دور
هذا النظام في قمع الأصولية في بلده..)
الغرب لم يغضب على النظام
العراقي يوم الفعلة النكراء في (حلبجة)
والعرب والمسلمون كلهم غضبوا. وهم
اليوم يغضبون بسبب اجتياح العراق.
لأنهم أبعد رؤية من أن تخدعهم الشعارات..
من
القدس إلى بغداد، وبسبب المراهنة
الخاطئة للمشروع الأوروبي على
الاستبداد، يعيدنا مشروع الهيمنة
العالمي قرناً إلى الوراء، لندخل من
جديد عهد الاستعمار، ومرحلة إعادة
التكوين.
تخطئ
أمريكا، ويخطئ الغرب كله، إذا ظن أن
بإمكانه أن يفرض مشروعه علينا. سيحقق
نجاحات وانتصارات، ولكنه سيعود بعد
قرن ربما أو أقل أو أكثر إلى إعادة
الحساب، وسيكتشف أن عليه أن يفكر
بأسلوب جديد.
الخطأ الأساسي في المشروع
الغربي، إلغاء الآخر، أو تزويره،
نعتقد أن بيننا وبين الغرب: الحضارة
والثقافة والمصالح تقاطعات كثيرة، وأن
بيننا فجوات يمكن أن تجسر، ومقاربات
يمكن أن تعمق، وأن بيننا ما هو شرقي وما
هو غربي ينبغي أن تحترم فيه الخصوصية
التي تمثل الذات.
نؤمن
بالحوار وندعو إليه. نحترم الإنسان،
ونقدس الحياة. ونحمل إرث أبناء
الإنسانية العظام نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله أجمعين.
|