هل
مازال هناك مشروع سياسي عربي ؟
مارك
فيرو
لوموند
إن
الملاحظ لجمود الحكومات العربية خلال
حرب العراق والذي بلغ حد الشلل التام،
لا بد وأنه متسائل إن لم تكن نهاية هذه
الحرب تعني هزيمة المشروع القومي
العربي وانهياره ؟ على العكس من ذلك ما
فتئ الشارع العربي من مراكش إلى
القاهرة يكشف عن مدى طاقاته الكامنة
وعن مدى رفضه لسياسات حكوماته أيضاً !
لاشك
أن الكثير من أعمال التضامن قد أنجز في
عمان ودمشق. ومما لاشك فيه أيضاً أن
الجامعة العربية قد أطلقت العديد من
التصريحات تنديداً بـ (العدوان على
العراق: تصريحات تذكر بفعاليتها
تصريحات عصبة الأمم قبل الحرب).
فقد
لوحظ على الخصوص صمت أولئك الذين
ساندوا صدام حسين أثناء غزوه للكويت:
اليمن والسودان ومنظمة التحرير
الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات.
ترى
ما الذي نبرر به أو نفسر هذا الانهيار
بعد مرور خمسين عاماً على تجسيد عبد
الناصر لثورة الأمة العربية، والحال
أن المشروع العربي قد اتخذ أكثر من
مظهر واحد: من تعريب الإسلام الذي وصف
كمظهر من مظاهر العبقرية العربية
النابعة من ذاتها وليس بفعل وحي إلهي،
إلى المظهر الآخر المعكوس تماماً
متمثلاً في أسلمة العروبة في أمة موحدة
من المؤمنين كما ينادي به الإخوان
المسلمون.
أنصار
التيار الأول رأوا في سيرورة توحيد
ألمانيا قبل عام 1871 نموذجاً قد يمكن
للعرب اتباعه، ولكن أي دولة عربية
تستطيع أن تلعب دور (بروسيا) ؟
بتدبيرهم
لإنشاء الجامعة للدول العربية غداة
ثورة العراق. الإنجليز كانوا يأملون في
إعادة بسط نفوذهم على المنطقة. كيف ؟
لقد كانت فكرتهم أن يعيدوا بناء مملكة
عربية كبرى انطلاقاً من بغداد العاصمة
التاريخية للعالم العربي، تحت إشراف
الهاشميين والعراق. لكن في القاهرة كان
الملك فاروق قد (همس) للعراق بالفكرة
نفسها بإعلانه عن إنشاء جامعة للدول
العربية (آذار 1945). وساعتها وعدت هذه
الأخيرة بتقديم الدعم لكل حركة وطنية
عربية، ولاسيما في أفريقيا الشمالية،
وبالكفاح ضد ميلاد دولة إسرائيلية.
وعندما ظهرت ملامح إنشاء إسرائيل بدعم
من منظمة الأمم المتحدة لم تتوان هذه
الجامعة في التعبير عن رفض العرب لقيام
دولة إسرائيل. لكن الانشقاق ما بين
الدول الأعضاء كان من الحدة والعمق مما
جعل العرب يخسرون الحرب مع إسرائيل
فكانت نكبة عام 1948.
ومع
أزمة السويس وتأثير رياح الهزيمة صارت
مصر الجديدة بزعامة جمال عبد الناصر
وليس بزعامة سوريا أو العراق ـ مهدي
العروبة ـ هي المؤهلة للعب دور (بروسيا).
لكن ناصر كان مصرياً أكثر منه عربياً
(!!) رغم تعاطفه الكبير مع آلام وآمال
الشعوب العربية. ولم يكن يؤمن إيماناً
قوياً بإمكانية وحدة العرب. صحيح أنه
وقف إلى جانبهم في الضفة الشرقية، وفي
المغرب العربي وغيرهما. ومع ذلك فقد
كانت قومية الجزائريين الضبابية لا
تأمن جانب الذين يلعبون الورقة
المصرية وعلى رأسهم الرئيس السابق
أحمد بن بلة. فحين وصف جمال عبد الناصر
الجزائر بأنها (بوابته) في علاقاته مع
أفريقيا عام 1961 لم يستسغ مداحو القومية
العربية فكرته وطرحوا أسئلة كثيرة.
وحتى قادة حزب البعث لم
يتكلوا على عروبة ناصر وطروحاته في
الوحدة حتى وإن أصبح يجسدها بالفعل.
ومع
ذلك فالرهانات والعهود التي قدمها
للكفاح ضد الإمبريالية وضد إسرائيل
أيضاً كانت كافية لتبرير التضحية التي
قام بها حزب البعث الحاكم في سورية لأن
يحل نفسه تحقيقاً للوحدة ما بين
القاهرة ودمشق وقيام الجمهورية
العربية المتحدة.
وفي
بغداد أدت ثورة شعبية مؤيدة لناصر إلى
قلب النظام الحاكم عام 1958. لكن أحد قادة
هذه الثورة وهو الجنرال عارف لم ينجح
في ضم العراق إلى الجمهورية العربية
المتحدة التي ما فتئت أن تفككت لفرط
تأثير السياسة المصرية على سورية.
تذكرني
بتلك الحقبة التاريخية صورة
فوتوغرافية يظهر فيها جنباً إلى جنب كل
من عارف وناصر وبن بلة في لحظات الوحدة
العربية وهي في أوجها قبل أن تنهيها
حرب الأيام الستة عام 1967 التي كانت
بالنسبة للعرب نكسة أسوأ من نكبة عام
1948.
في أعقاب هذه الهزيمة فقد
عبد الناصر ثقة الأوساط القومية
الراديكالية، وثقة الفلسطينيين أيضاً.
بل ولقد لقبوه بـ (بيتان) Petain
الأمة
العربية. ومن ترى كان سيخلف مصر
المهزومة في إحياء آمال في الوحدة
العربية ؟ هل هي سورية التي صار امتصاص
لبنان هو همها الوحيد ؟ هل هي ليبيا
الثورية الجديدة بزعامة الشاب معمر
القذافي ؟ لقد سعت هذه الأخيرة إلى
الوحدة مع تونس تارة ومع مصر تارة أخرى.
كما اقترحت بفضل أموال بترولها تقديم
المساعدة لـ (الأمم الكادحة) وعلى
العرب بأن ينطلقوا في الثورة العالمية.
لكن
حرب 1973 التي فرضها خلف جمال عبد الناصر
أنور السادات على إسرائيل ما فتئت أن
قضت على اقتراحات الزعيم الليبي.
والحال أن هذه الحرب قد أعدت سلاماً في
إسرائيل تحت إشراف الأمريكيين.
وكان
هذا السلام الذي سعى إليه السادات في
رأي الكثير من العرب، ولاسيما الإخوان
المسلمون خيانة عظمى كلفت السادات
حياته.
وبقي
العراق، لقد أعطت الثورة الإسلامية في
إيران بزعامة الخميني، أعطت لصدام
حسين الوحيد في السلطة منذ عام 1979
إمكانية لعب دور المدافع عن العالم
العربي أمام التوسع الإسلامي الفارسي.
فقد
أعلن صدام مدعوماً من كافة البلدان
العربية ـ باستثناء سورية ـ الحرب على
إيران الخميني الذي هاجم العروبة ودعا
إلى قلب البعث، والبقية معروفة. فهذه
الحرب التي دامت ثماني سنوات انتهت إلى
غزو الكويت حتى يدفع صدام الثمن: إدانة
الأمم المتحدة والتدخل تحت إشراف
الأمريكيين وإبادة الشيعة وتحرير
الكويت. وبعد عشر سنوات كان احتلال
بغداد. وأغرق هذا الإذلال الجديد
الشارع العربي في حالة من الإحباط
العميق. والله وحده يعلم مدى مشاعر
الحقد والكراهية التي ملأت كيان هذا
الشارع الساخط الذي لم يجد وميضاً من
العزاء والانتقام إلا في شخص ابن لادن
وحده !
المثير للانتباه أنه في
أثناء الحج الشيعي لكربلاء غداة سقوط
بغداد نادى العرب بقيام جمهورية
إسلامية وتحدثوا عن مستقبل العراق ولم
يذكروا قط مستقبل العالم العربي. هل هي
إشارة إلى أن الدول المصطنعة بالأمس قد
أصبحت في نظر الشعوب وليس في نظر
الحكومات دولاً أمماً بحق ؟
وبالنسبة
للعراق تحديداً، فالمستقبل وحده هو
الذي سوف يحكم ويقرر. لكن المؤكد أن
مناهضة أمريكا ومعاداة إسرائيل يشكلان
العصب المحرك الكامن الذي لم ينفجر بعد.
هل
هذا هو الذي سوف يشكل التضامن التام مع
الفلسطينيين الذين أصبحوا أمة بلا أرض
؟
يبدو
الفلسطينيون كضحايا للتاريخ بحكم
وضعهم كشعب بلا أرض، عندما يطردون أو
يحاربون وبدافع الخشية من طاقاتهم
الثورية في إسرائيل وفي لبنان أو سورية.
ففي خلال السنوات الأخيرة لم يلعب
العرب في المفاوضات التي جرت ما بين
الفلسطينيين وإسرائيل تحت رعاية
الولايات المتحدة، لم يلعبوا على أكثر
تقدير سوى دور الوسيط الضعيف أو
المشوش.
هذه
الإخفاقات والهزائم المتتالية هي التي
تمنت الطريق الآخر المطروح منذ عهد
قريب ألا وهو العودة إلى الإسلام وإلى
وحدة الإسلام ـ عربي وغير عربي ـ وهو
الطريق الذي تمخضت عنه مناهضة التطرف
لقيام الدولة / الأمة.
وقد
جاء التأكيد على ذلك، من خلال التدخل
الأول من ابن لادن بعد أحداث الحادي
عشر من أيلول 2001 حين ذكر هذا الأخير
تعرض الإسلام (لثمانين عاماً من
الإذلال) أي منذ انتهاء نظام الخلافة
وميلاد الدول العربية.
وإذا
كانت هذه الحركة أقدم عهداً فإن (الإخوان
المسلمون) يشكلون واحدة من أبرز
مظاهرها، لكن انتصارات الناصرية ما
فتئت أن شلت حركتها وأحبطت محاولاتها.
وكانت
العربية السعودية تخشى من ناحيتها
عدوى هذه الحركة وانتشارها لكن بفضل
رعاية الولايات المتحدة حدث ذلك
الاقتران المقدس ما بين الإيمان
والبترول الذي اضطلعت الرياض بمصيره
المزدوج بتقديمها الدعم للأفغان ضد
الغزو السوفياتي والذي كان فترة أوج
لحركة التطرف وللعرب الذي حركوه
وهيجوه ـ وكان أيضاً الفترة التي
حاربوا فيها إيران والثورة الشيعية
التي قمعت أيضاً في العراق مما جعلها
تنتقل إلى لبنان لترسي قواعدها من جديد
وتؤسلم (أي تضفي الطابع الإسلامي) على
المقاومة الفلسطينية التي كانت تسعى
حتى تلك اللحظة أن تكون علمانية.
ويكفي
أن تزداد الشيعة قوة وحدة في العراق
لكي يشهد العالم العربي تحولاً عميقاً
آخر لاسيما وقد طفت على السطح من جديد
فكرة أن العربي لا يكون عربياً حقاً
إلا إذا كان مسلماً. لكن صحيح أيضاً
أن البلاد الإسلامية ليست للإسلاميين
وحدهم: فالعداء متعاظم إزاء تجاوزاتهم
وانحرافاتهم المفرطة. لكن يبقى أن
العجز السياسي للدول العربية هو الذي
يحول دون كبح مد قوي يسعى إلى استثمار
طاقات الشارع المحبطة.
كانت
هذه رؤية حزب البعث وميشيل عفلق بشكل
خاص للإسلام الذي اعتبر أحد
التجليات للعبقرية العربية !! (مركز
الشرق العربي)
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها |
|