وصل
إلى مركز الشرق العربي :
التطوير
والتحديث ...إلى أين
د.
عمار قربي*
لا
يخفى على احد أن مشاكل الإدارة في
أجهزة الدولة عموما" والقطاع العام
خصوصا" تحتل حاليا" قدرا" كبيرا"
من الاهتمام والعناية ، وقد اتخذ هذا
الاهتمام صورا" مختلفة ، منها تشكيل
وزارة خاصة بالإصلاح الإداري ، وإعادة
تنظيم الجهاز المركزي للتنظيم
والإدارة ، والبدء بعمليات إعادة
التكوين الحكومي ، ومن ثم تشكيل لجان
وزارية للتنمية الإدارية يرأسها رئيس
الوزراء ..كل هذا يندرج تحت مفهوم عام
يرى في " التطوير والتحديث " وسيلة
أساسية للتغلب على كثير من المشاكل
الإدارية في أجهزة الدولة القائمة،
وسبيلا" إلى الارتفاع بكفاءة الأداء
بها.
ولقد
تعددت محاولات الإصلاح الإداري في
القطاع العام والجهاز الحكومي خلال
الحقبة السابقة وكان نصيبها من النجاح
والفاعلية ضئيلا" بصفة عامة، الأمر
الذي يدفعنا للتساؤل عن احتمالات
النجاح للمحاولات الحالية للتطوير
والتحديث.
ولعله
من المفيد أن نعدد باختصار شديد أهم
مشاكل الإدارة في سورية والتي تأتي من
اجلها الدعوة إلى الإصلاح وإعادة
التنظيم:
1- عدم
القدرة على تحقيق معدلات غير عادية من
الإنتاجية تتناسب مع الظروف غير
العادية التي يمر بها الاقتصاد في
سورية .
2- عدم
القدرة على الإفادة من مفاهيم الإدارة
الحديثة والنظريات المعاصرة واستيعاب
أساليبها المتطورة.
3- إن
الطريق الأجدى في إدارة الإنتاج هو
زيادة الإنتاجية مع تثبيت عناصر
الإنتاج أو ضغطها، ورغم انه الطريق
الملائم لوضعنا الاقتصادي ومع ذلك لا
نسلكه باعتباره الطريق الأصعب ونسلك
الطريق السهل المباشر في تحقيق أهداف
الإنتاجية أي زيادة الموارد
والإمكانيات.
4- الاهتمام
الزائد بمشاكل العمل المادية الناشئة
عن ندرة بعض عناصر الإنتاج والرغبة
المستمرة في ضمان الحصول على المزيد من
تلك الموارد المادية وذلك دون محاولة
الاهتمام بقدر متناسب من الأفكار
والمفاهيم الإدارية المتطورة والتي
يتوقف على استيعابها حسن استخدام
الموارد المادية.
5- البيروقراطية
المتفشية في المكاتب الإدارية لأجهزة
الدولة والتي تتسبب في هدر للوقت
والمال على حساب الإنتاج والإنتاجية.
6-
البطالة المقنعة المنتشرة في الوحدات
الإنتاجية وكافة أجهزة الدولة وتتجلى
بوجود الآلاف من العمال والموظفين دون
عمل حقيقي رغم أنهم يأخذون رواتب
ومسجلين على كشوف الدولة.
7- رغم
المعاناة من البطالة المقنعة إلا أن
المصانع والمعامل تشكو من قلة العمال
والموظفين الفنيين في الوحدات
الإنتاجية، فكثرة الموظفين تأتي فقط
في المجال المحاسبي والإداري أو العمل
الروتيني الذي لا يحتاج إلى خبرة.
إن
كل المحاولات السابقة للإصلاح
والتطوير لم تؤتي أكلها وانتهت دائما"
دونما أن تؤدي إلى تغيير ملحوظ.
واهم
أسباب قصور عمليات إعادة التنظيم
الإداري السابقة وعدم قدرتها على
تحقيق تغيرات جذرية في مستويات الأداء
والكفاءة الإدارية تقوم على المقومات
التالية:
1- عمليات
التحديث والتطوير السابقة كانت تعتمد
على النوايا الحسنة أكثر من اعتمادها
على الدراسات الميدانية المستندة إلى
أسس البحث العلمي المتعارف عليها، ومن
ناحية أخرى إن محاولات الإصلاح
القائمة على الدراسات المكتبية وعمل
اللجان الرئيسية و الفرعية، تبقى
معرضة للشلل الحتمي بسبب الإجراءات
الروتينية التي تحد من فاعليتها وتقيد
من حركتها، ناهيك عن قصور تشكيلها
وانعدام الدافع الحقيقي للإنجاز بين
أعضائها، وباختصار إن الاعتماد على
الدراسات المكتبية واللجان لا يمثل
البداية السليمة لأية عملية تنظيمية
جادة.
2-
إن عمليات الإصلاح الإداري السابقة
كانت في اغلب الأحيان ترتكز على الشكل
دون المضمون بمعنى أن الاهتمام كان
يتجه في الغالب إلى البحث عن مسميات
جديدة وأشكال مبتكرة للتنظيم والإصلاح
بغض النظر عن محتوى تلك المسميات
والأشكال، فقد تناوبت الفكر التنظيمي
في سوريا اهتمامات مختلفة نتج عنها
كثير من المسميات المبتكرة من هيئة
عامة إلى مؤسسة عامة إلى جهاز مركزي
إلى لجنة متابعة إلى لجنة تحقيق...الخ..دون
أن يرتبط بتلك المسميات والأشكال
التنظيمية الجديدة أي تغيير جوهري في
أساليب الأداء أو مستوى الإنجاز وبقي
التغيير في القشور و الشكل.
3-
إن ابرز عيوب عمليات الإصلاح السابقة
الالتجاء إلى أسلوب الإصلاح الجزئي أو
ترميم البناء التنظيمي لوحدة معينة
دون إدراك الطبيعة الشمولية للتنظيم
بشكل عام.
إن
إجراء التغيير في وحدة بعينها يترتب
عليه بالضرورة حدوث ردود فعل يصل صداها
وتأثيرها إلى العديد من الوحدات
الأخرى التي لابد وان يشملها التغيير
أيضا" تحقيقا" للتوافق والتناسب
بينها، إن اتجاه عمليات الإصلاح
والتطوير اقتصر سابقا" على تغيير
البناء التنظيمي لوحدات بذاتها مع
بقاء المناخ التنظيمي العام على ما هو
عليه، الأمر الذي جعل آثار الإصلاح
حبيسة وغير قادرة على الانطلاق وإحداث
النتائج المرجوة في الكفاءة والأداء .
إن
إعادة تنظيم وزارة ما على سبيل المثال
مع بقاء تنظيمات الوزارات الأخرى على
حالها لا يحقق الهدف المنشود بسبب
التداخل والاتصال المستمر بين تلك
الوزارات جميعا" واعتماد كل منها
على الأخرى في إنجاز بعض مهامها ،
فالإصلاح يجب أن يطال كل أجهزة الدولة
على السواء وبشكل شامل.
أيضا"
بالرغم من إحداث تغييرات تنظيمية في
بعض وحدات الجهاز الحكومي أو القطاع
العام فإن الوحدات التنظيمية الأقل
قدرة وكفاءة والتي لم تشملها عمليات
التطوير والتحديث تظل هي المتحكمة في
مستوى الكفاءة العام بفعل ظاهرة
الاعتماد المتبادل بين الإدارات
المختلفة.
4-
لعل من أهم العوامل التي أدت إلى عرقلة
التطوير والتحديث هو الميل إلى
النمطية والتوحيد في شكل قوانين
ولوائح عامة تنطبق على كل الشركات
والمؤسسات والوحدات الإنتاجية
بالقطاع العام من جهة ونمطية واحدة
مقولبة تحكم العلاقة بين مؤسسات
القطاع العام وأجهزة الدولة من ناحية
أخرى.
إن
الاتجاه إلى التوحيد والنمطية في
التطوير والتحديث يتجاهل حقيقة أساسية
هي أن لكل مؤسسة ظروفها أو مشكلاتها
الخاصة، كما أن لها أهدافها
وإمكانياتها وميزانيتها المختلفة
والتي تجعلها وحدة متميزة تماما" عن
غيرها من الوحدات والمؤسسات حتى التي
تشترك معها في نفس النوع من النشاط،
ولاشك أن قدرا" كبيرا" من المشاكل
التي تعاني منها مؤسسات القطاع العام
يعود إلى القيود التي تفرضها تلك
النمطية، والتي تحد من قدرة الإدارة
على اتخاذ القرارات المناسبة مع طبيعة
الموقف الذي تتعامل فيه.
5- عامل
آخر يساهم في إعاقة عملية التطوير
والتحديث عن بلوغ أهدافها المنشودة
وهو عدم وجود تخطيط شامل ودقيق يحدد
أهداف وأساليب هذا التطوير والتحديث
وينظم مراحله وإجراءاته، حيث إن كثيرا"
من محاولات التطوير كانت تتصف
بالفجائية واللامنطقية، الأمر الذي
يفقدها عادة اقتناع وتجاوب أعضاء
الحكومة نفسها، وهنا يأتي تفسير كيف أن
عمليات التغيير والتحديث تبدأ وتنتهي
على صعيد كل مؤسسة دون أن تترك أثرا"
ملموسا" في إجراءات وأساليب الأداء
أو مستوى كفاءته، إن قدرا" كبيرا"
من عملية التطوير كان يرتبط بمناسبة
تغيير القيادات الأساسية في الهرم
الحكومي، ومن ثم فإنها لم تكن تصدر عن
نظرة موضوعية وتحليل علمي لإنجازات
الأجهزة والمؤسسات القائمة ومواطن
الضعف فيها بقدر ما كانت تنبع عن
الرغبة الطبيعية الذاتية في التغيير.
6-
مشكلة أخرى تعيق التطوير والتحديث
المطلوبين وهي مشكلة التناقض بين
متطلبات التنظيم الصحيح من ناحية وبين
أهداف وإمكانيات الأفراد من ناحية
أخرى سواء أكان الأفراد مدراء أم عمال
حيث أن هذه الإشكالية تعبر عن الصراع
الدائم بين فكرة التطوير باعتباره
وسيلة لتحقيق غايات الإنتاج والخدمة
العامة، وبين خصائص الأفراد وأهدافهم
الشخصية، والتي قد تنحرف بالتطوير عن
أهدافه واتجاهاته الموضوعية، أو قد
تحد من تأثيره وفاعليته،
ويبقى
السؤال الأهم : هل هدف التطوير
والتحديث تلبية احتياجات البلد وحلحلة
الوضع الاقتصادي المتردي
وفقا" لأحدث أساليب الإدارة في
ما يسمى بعصر العولمة ؟ ، وهل يتم تكييف
الأفراد وإخضاعهم لمتطلبات ذلك
التطوير ؟ أم يصمم التطوير والتحديث
بما يحقق احتياجات الأفراد ويتناسب مع
قدراتهم ونوازعهم الشخصية حتى و لو أدى
ذلك إلى عرقلة الأداء وخفض الكفاءة ؟
أم هل من سبيل إلى التوفيق بين هذين
النقيضين ؟
أسئلة
لاشك أن الحكومة لم تتوصل بعد إلى
الإجابة عن احدها.
7-
وأخيرا" إن عدم وجود معايير لتقييم
فاعلية وكفاءة المؤسسات والإدارات
المختلفة، وغياب المتابعة والمراقبة
والمحاسبة جعل الاهتمام بعمليات
التجديد والتطوير اهتماما" شكليا"
محضا" لا يصل إلى أعماق المشاكل، ولا
يحاول البحث عن حلول جذرية لها.
فيجب
إلى جانب المتابعة وضع دراسات للأعمال
وتصميمها ووضع معدلات الأداء لها
وتحديد السياسات والنظم العامة التي
تحكم الأداء وتحديد الإجراءات
والأساليب المستخدمة في أداء الأعمال
المختلفة ووضع معايير التقييم والحكم
على صلاحية الأداء وكفاءته إضافة إلى
تنظيم الاتصالات وتأمين المعلومات
والاهتمام بالعلاقات الإنسانية
وأساليب إدارتها وتنميتها.
ونحن
إذ نقبل على مرحلة جديدة يستأثر بها
التطوير والتحديث باهتمام الدولة بشكل
ملحوظ يجب أن نفيد من تجاربنا السابقة
ونعمل على احاطة الجهود الجديدة بكل
الضمانات التي تكفل لها الفاعلية
والنجاح .
هذا
النجاح يتركز في ضرورة البدء بفهم واضح
وصحيح لطبيعة التطوير أيا" كان
المجال الذي نريد أن نطوره وكذلك
الاستناد إلى أسلوب علمي دقيق بعيدا"
التطبيق التجاري لمفهوم التطوير
والتحديث والذي تزاود به بعض القيادات
الحالية لتبدو أنها عصرية ومواكبة
ومواتية ، إضافة لقطع الطريق عن
التطوير والتحديث الحقيقي الذي ينادي
به السيد الرئيس ، حيث لا مكان لهذه
القيادات المحنطة في ظل تطوير وتحديث
أولى اولوياته اجتثاثها .
إن
أي جهاز أو إدارة سواء أكانت مؤسسة
عامة ، وزارة ، جامعة، ....بالنتيجة هي
أداة يتم بموجبها تحويل موارد معينة
إلى منتجات سلعية أو خدمية من خلال عدة
أنشطة منظمة ومتناسبة يمارسها أفراد
تقوم بينهم علاقات وصلات متبادلة ،
والتطوير بذلك يتصف بحقيقة أساسية ،
وهي أن عملية التطوير والتحديث دائمة
الحركة والاستمرار ، وتهدف إلى إنشاء
تكوينات تتعايش مع البيئة وتخدم
أهدافا" تنبثق من الأهداف العامة
للمجتمع ، أي أن كفاءة التطوير تتحدد
بدرجة خدمته لأهداف يرغبها المجتمع ...إن
تحديد هذا المفهوم يقودنا إلى الأخذ
بأسلوب التخطيط العصري الموضوعي ،
وتطبيق هذا التخطيط يتطلب بدوره
التخلص من كل العوامل السابق الإشارة
إليها والتي أدت إلى قصور عمليات
التطوير السابقة عن بلوغ أهدافها ،
ولاشك أن السبيل إلى ذلك يكمن في إجراء
الدراسات الميدانية والإقبال على
عمليات إعادة التنظيم بمفهوم واقعي
يقوم على الإيمان بالفروق الموضوعية
بين الإدارات المختلفة والابتعاد عن
محاولات التوحيد والنمطية .
*سياسي
سوري
04/06/2003
المقالات
المنشورة تعبر عن
رأي كاتبيها
|
|