تفجيرات
الرياض والدار البيضاء مخالفة
للشرع
ومواجهة في غير محلها
فيصل
مولوي*
يعتبر
الجمهور الأعظم من العلماء التفجيرات
التي وقعت في الرياض والدار البيضاء
وأودت بحياة عدد كبير من الأبرياء،
وهددت الأمن الوطني للبلاد، عملاً غير
شرعي. اذ انّ مثل هذه الأعمال بدأت في
بلادنا الإسلامية منذ مدّة، وقد تستمر
الى حين، وهي تتغذى بلا شكّ من الإرهاب
الصهيوني والأميركي الذي يمارس أبشع
أنواع الاحتلال في فلسطين والعراق
وأفغانستان، ويشنّ حرباً شاملة ضد
الإسلام كدين وحضارة، وضدّ المسلمين
كشعوب مستضعفة. وبما ان بعض القائمين
بهذه الأعمال، وكثير ممن يبررونها
لهم، يستندون الى مفاهيم خاطئة، نرى من
الواجب توضيح الأحكام الشرعية
المتعلقة بهذا الموضوع.
غاية
القتال
فرض
الإسلام الجهاد لتحقيق غايتين اثنتين:
الأولى:
الدفاع عن المسلمين، اذ قال تعالى: "وقاتلوا
في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا
تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين" (البقرة
190).
الثانية:
الدفاع عن حرية الناس في الإيمان
بالإسلام أو البقاء على ما هم عليه،
هذه هي "الفتنة" التي أُمرنا أن
نقاتل حتى نرفعها عن الناس، ليختاروا
دينهم بحرية كاملة "وقاتلوهم حتى لا
تكون فتنة، ويكون الدين كلّه لله..." (الأنفال
39).
ومن
الواضح ان الجهاد لتحقيق هاتين
الغايتين لا يكون إلاّ ضدّ عدو خارجي.
ان
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو
الأسلوب المشروع لمعالجة الانحراف
الداخلي. فهل وصل المنكر اليوم الى
درجة الكفر؟
يعتبر
بعض الناس أنّ المنكر في المجتمع
المسلم وصل الى درجة الكفر، سواء من
الحكام أو من الأفراد أو من الأحزاب،
وفي هذه الحال قد لا تؤدي فريضة "النهي
عن المنكر" دورها في الإصلاح، فيطرح
بعض الشباب مسألة القتال أو الجهاد
على
أننا نقول: إنّ مسألة التكفير رافقها
كثير من الغلو، وأصبحت اليوم من أهم
وسائل الفتنة وتمزيق وحدة الأمّة،
والأصل فيها أنها مسؤولية الدولة، إذ
تكفير المسلم إعلان ردته، والردة لها
أحكام شرعية يناط بالإمام تنفيذها. أما
شيوع الاتهام بالتكفير والردة من دون
وجود سلطة تحسم الموضوع، فهذا من شأنه
تمزيق وحدة المجتمع الإسلامي من دون
التمكن من تطبيق أحكام الردة. وقد نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكفير
المسلم وقال: "إذا قال الرجل لأخيه
يا كافر فقد باء به أحدهما، فإن كان كما
قال، وإلاّ رجعت اليه" متّفق عليه.
أما
استباحة الخروج على الحاكم بحجّة
التكفير أو الردّة، فقد وضع لها الرسول
صلى الله عليه وسلم شرطاً صعباً جداً،
هو "أن يكون الكفر بواحاً، وعليه
برهان قاطع"، واعتبر ان مجرّد إقامة
الصلاة أو الصيام تمنع الإتهام
بالكفر، ولا تجيز الخروج، ولا أعتقد
بأنّ أحداً من حكام المسلمين اليوم
ينطبق عليه هذا الشرط.
الحرابة
والفتنة داخل المجتمع
ولذلك
فإن استعمال القتل والترويع واغتصاب
الممتلكات وغيرها داخل المجتمع
المسلم، يسمى عند الفقهاء "حرابة"
أو "فتنة".
والحرابة
هي قيام فرد أو مجموعة من المسلمين
بإعلان الحرب ضدّ المجتمع المسلم،
واستباحة الدماء والأموال والأعراض،
والقيام بأنواع من الترويع والإيذاء،
وهو ما يعتبر إفساداً في الأرض،
ويستحقّ عقوبة أقسى من عقوبات القاتل
والسارق والزاني، لأنّ الجريمة هنا
ليست نزوة فردية لإشباع نهم مالي، أو
شهوة جنسية، أو ثأراً شخصياً، وإنما هي
منهج يتحرك فيه صاحبه ضدّ المجتمع،
أياً كانت دوافع هذا التحرك. قال تعالى:
"إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن
يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُقطّع
أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من
الأرض..." (المائدة 33).
والفتنة
هي وقوع القتال بين فئتين من المسلمين،
وكثرة الهرج والمرج، وقد نهانا رسول
الله صلى الله عليه وسلّم عن الدخول في
أنواع الفتن، وجعل "النائم فيها
خيراً من القائم" وجعل "قتلاها
كلها في النار" رواه أحمد ورجاله
ثقاة كما في مجمع الزوائد 7/203، وأمرنا
باعتزال الناس عندما تسود الفتة. وقد
اتفق جمهور الفقهاء من أهل السنّة
والجماعة، أنّ الحاكم إذا انحرف فيجب
نصحه، ولا تجوز طاعته في معصية الله،
ومن يفعل ذلك من المسلمين فهو مجاهد.
وإذا قتله الحاكم فهو شهيد "سيد
الشهداء حمزة، ورجل قام الى إمام جائر
فأمره ونهاه فقتله". ولم يبح جمهور
العلماء الخروج على الحاكم المنحرف
بالسيف خوفاً من الفتنة، والتزاماً
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عندما سأله الصحابة: "ألا نقاتلهم؟
قال: لا، ما صلوا" أو "إلاّ أن تروا
كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان"
رواهما مسلم "ومن حمل علينا السلاح
فليس منا" رواه مسلم.
التعرض
لغير المقاتلين أثناء القتال
من
المتفق عليه عند جمهور العلماء أنه لا
يجوز حتى أثناء قيام الحرب الفعلية قتل
النساء غير المقاتلات والأطفال
والشيوخ العجزة والعسفاء "وهم
الأجراء الذين يعملون في غير شؤون
القتال"، وفي ذلك روايات صحيحة عند
البخاري ومسلم وأبي داود، وقد وردت
روايات أخرى بمنع قتل الرهبان
والتجار، كما أنّ جمهور الفقهاء الذين
يعتبرون "علّة القتال المحاربة"،
يقيسون كلّ من لم يقاتل أو من لا يستطيع
القتال على ما ورد في هذه النصوص
كالأعمى والمريض المزمن والمعتوه
والفلاح وأمثالهم، وهؤلاء يُسمون في
المصطلح المعاصر "المدنيون".
وبناءً
على ذلك نقول: انه حتى حين يوجد سبب
شرعي للقتال، وأثناء قيام المعارك،
فإنه لا يجوز تقصّد قتل هؤلاء المدنيين.
نعم يمكن أن يقع ذلك من غير قصد، كأن
يستهدف المجاهدون المسلمون المقاتلين
من الأعداء فيصيبون غيرهم معهم، وهذا
يحصل عادة في جميع الحروب.
من
الواضح أنّ إقدام الولايات المتحدة
على تقديم كلّ أنواع الدعم للصهاينة
يجعلها شريكاً لهم في المجازر والمآسي
التي تحلّ بالشعب الفلسطيني، كما أنّ
استمرار احتلال العراق بعد اسقاط
النظام السابق، وبعدما تبين عدم وجود
أسلحة الدمار الشامل، وكذلك استمرار
احتلالهم لأفغانستان بعد إسقاط حكم
"طالبان"، يعتبر عدواناً عسكرياً
مباشراً على بلاد المسلمين، ويفرض
مواجهة هذا الاحتلال بكلّ الوسائل
المشروعة. لكن لا يغيب عن أذهاننا
أيضاً أنّ التسلط الأميركي على أكثر
بلاد الإسلام ازداد في شكل كبير بعد
سقوط الاتحاد السوفياتي، وازدادت معه
القواعد العسكرية، والهيمنة
السياسية، والنفوذ الاقتصادي، خصوصاً
من طريق المساعدات الاقتصادية
المسيسة، وأخيراً محاولات الغزو
الثقافي الذي يهدف الى ابراز إسلام
جديد خاضع لمنظومة الفكر الأميركي
ولمصالح الولايات المتحدة.
إنّ
هذا الواقع يجعلنا في مواجهة شاملة مع
المخططات الأميركية، ويقتضي تضافر
إمكانات الأمّة كلها وتعاونها في ما
بينها، لأن الخطر ينال الجميع، مما
يدفعنا الى مطالبة الشباب المتحمس
باستبعاد كل صراع جانبي لمصلحة هذه
المواجهة، كما يدفعنا الى مطالبة
الأنظمة بالانفتاح على شعوبها، وتوسيع
إطار الحريات، وإقرار أحكام العدالة،
والمحافظة على حقوق الإنسان، وأن
تتصدى الى قيادة الأمة في هذه المواجهة
بالحكمة المناسبة ومع تقدير الظروف.
وحين يكون العنوان هو المواجهة، فإنّ
الأمّة يمكن أن تتوحد وراء قيادتها في
هذه المعركة المصيرية، وتتجاوز كثيراً
من الأمور، أما حين يكون العنوان:
الخضوع والاستسلام، فإنّ الأمّة لا
يمكن أن تقبل ذلك، وهو ما يؤدي الى
انفلات الأمور، والى تعميق القطيعة
بين الشعوب وقياداتها.
في
هذا السياق يجب أن يكون واضحاً للجميع،
أنه حين يكون هناك احتلال أجنبي، كما
هي الحال في فلسطين والعراق
وأفغانستان، فإنّ الجهاد هو الفريضة
الأهم، والمقاومة المسلحة أمر مشروع
حتى في القوانين الدولية، ولا يمكن ولا
يجوز لأي سلطة أن تمنع الناس من القيام
بهذا الواجب. أما حين يكون هناك خضوع
سياسي وتبعية اقتصادية فإنّ الأمر
محصور بيننا وبين حكامنا، وهو يحتاج
الى قدر من التعاون نحفظ به للأمّة
وحدتها وأمنها الاجتماعي واستقرارها
السياسي، وهذا هو أهمّ عناصر الصمود
أمام الهجمة المعادية، ورفض كلّ أنواع
الخضوع والتبعية.
تفجيرات
الرياض والدار البيضاء
مع
الإشارة لإمكانية ان يكون القائمون
بهذه التفجيرات من غير الإسلاميين،
ومع التنبيه الى أنّ المستفيد الأول
منها هو الولايات المتحدة نفسها بما
تتيح لها من ذرائع للتدخل وفرض نفوذها،
والى أنّ المتضرر الأول منها هو بلادنا
ووحدتها وأمنها واستقرارها، ومع
اعتقادنا بأنّ هذه التفجيرات بالشكل
الذي وقعت فيه، تتضمن مخالفة شرعية
لأنها استهدفت بالقتل نفوساً معصومة،
وهي خطأ سياسي لأنها خدمت العدو،
وأضرّت بمعركتنا المحقة، وشوهت صورة
الإسلام، الذي جعله الله رحمة
للعالمين، فإننا ندين هذه التفجيرات
وكلّ عمل من هذا النوع في بلادنا
العربية والإسلامية، وننصح الشباب
المسلم أن يعمّق النظر في ما يقوم به من
أعمال، في ضوء أحكام الشريعة ومقاصدها
ومصالح المسلمين، وفي ضوء مآلات
الأعمال نفسها، لأنه لا يكفي أن يكون
قصد المسلم ونيته فعل الخير، إذا كان
العمل الذي يقوم به يؤدي الى عكس ذلك.
كما
نناشد الحكومات التعامل مع هذه
الأحداث بالحكمة والعدالة، وأن لا
تتخذها سبباً للتضييق على كلّ عمل
إسلامي، لأنها في هذه الحال ستدفع
شباباً آخرين الى اليأس والإحباط والى
سلوك هذا الطريق الخاطئ، مما يزيد
الأمة انقساماً وتمزقاً، ولا يكون في
مصلحة أحد. ونسأل الله تعالى أن يجنبنا
الزلل، وأن يعصما من الانحراف، وأن
يوفق هذه الأمة المباركة الى ما يرضيه
من الوحدة والعزّة والتحرر.
*
الأمين العام ل"الجماعة الاسلامية"
في لبنان.
الحياة 01/06/2003
|