أوراق
في ملف المتمدن الأمريكي
غوانتانامو
ـ الفلوجة ـ أبو غريب
أهي
شرعة الحق والمدنية الإنسانية أو شرعة
القوة البدائية؟! هذا هو السؤال الذي
يصمم العالم الحرّ على سماع جوابه من
الإدارة الأمريكية.
والعالم
الحرّ، في تصورنا، ليس شاطئاً من
الشطآن، وليس محوراً ولا دولة. نحن لا
نؤمن بتقسيم العالم إلى محور للشر وآخر
للخير، ومعسكر الحرية وآخر لما يشاء
الآخرون من أسماء. العالم الحرّ موجود
في كل بقعة من بقاع الأرض، على رؤوس
الجبال وفي بطون الأودية، ومنابت
الشجر، وفي بيوت الحجر والوبر. فالحرية
هي إيمان مبدئي بكرامة الإنسان
وبأهليته وجدارته. الحرية هي تلك
الحالة التي عبر عنها لابس الأسمال عمر
بن الخطاب يوم أطلق نداءه المشهور منذ
ألف وخمس مائة عام: متى
استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحراراً.
أحرار
العالم ينتظرون الجواب الفعلي لا
القولي من الإدارة الأمريكية، هل
الشرعة التي تريد فرضها على العالم هي
شرعية القوة البدائية أو شرعة الحق
والمدنية؟!
حين
نبدأ من (غوانتنامو) لا بد أن نتوقف عند
الحقائق التالية..
ـ
عند هذا الوضع اللاإنساني واللاقانوني
الذي صنف على أساسه البشر هناك: إنسان
بين بين، نصف اعتراف بالإنسانية ونصف
اعتراف بالحقوق. أناس لم يجد لهم
القانون المدني الأمريكي تصنيفاً
يعاملهم على أساسه، فألقى بهم تحت سمع
العالم وبصره في معسكرات غوانتنامو..
ولم تجد كل الإدانات التي تقدم بها
أحرار العالم لتغيير هذا الوضع لأنه
حيث يرتفع السوط يكبت الصوت.
ثانياً
ـ تطاول الزمن على هؤلاء البشر سيئي
الحظ، الذين أوقعتهم ظروف خارجة عن
إرادتهم بيد المتمدن الأمريكي، فساقهم
إلى حتفهم، وأخضعهم لأسوأ عمليات
القهر والإذلال والتعذيب، وأبقاهم رهن
إرادته دون محاكمة حقيقية تليق ببني
البشر!!
ثالثاً
ـ والذي يثبت صحة ما ذهبنا إليه في
الفقرة السابقة، هذه الأعداد الكبيرة
من المفرج عنهم دفعة بعد دفعة. وكأن
كلمة (آسفون) ترد على الإنسان ما ذهب من
عمره، أو انتهك من كرامته، أو أنهك من
جسده!!
تحت
سمع العالم وبصره وبعلم السيد الأمين
العام للأمم المتحدة والسادة الأعضاء
الدائمين وغير الدائمين في مجلس
الأمن، يحتجز عدد كبير من البشر في
غوانتنامو بسطوة القوة وشرعيتها
البدائية دون أن يجرؤ أحد في هذا
العالم على المطالبة بمحاكمة هؤلاء
الناس محاكمة إنسانية عادلة تدين
الجاني منهم، إن وجد، وتبرئ البريء.
ولأن شرعة القوة هي التي يفرضها القوي
على طريقته، فهذه الشرعة هي التي تفرض
على العالم هذه الفوضى التي تنتشر في
الشرق والغرب على السواء.
وإذا
كنا نعيش في عصر المدنية والحضارة
حقاً، فإن على أحرار العالم أن يرفعوا
راية الحرية لفرض قيمها على الخارجين
عليها من الأقوياء والضعفاء على
السواء.
وعلى
الطرف الآخر من غوانتنامو يرقب أحرار
العالم بقلق ما جرى ويجري في أفغانستان
البلد الحرّ الفقير.. في ثقافة بعض
الشعوب ومنهم نحن أن الفقر ليس نقيض
الحرية ولا ينتقص من الكرامة. بل إن
الغطرسة والتوحش الإنساني واستخدام
القوة المفرطة في غير موضعها هو النقيض
الطبيعي للحرية والكرامة البشرية.
وحين
ننتقل إلى سجن (أبو غريب) نتوقف عند وجه
آخر للنفوس الإنسانية الممسوخة فاقدة
المناعة الإنسانية، التي تجاوزت
الطبيعة البشرية إلى حالة من هلوسة
المأفونين. هؤلاء المأفونون هم الذين
صنعوا مأساة (أبو غريب) بكل أبعادها:
حجم المأساة وعمقها..
لم
تنكشف حتى الآن الأبعاد الحقيقية
للمأساة. كان الحديث ابتداء عن حالات
فردية، وتطور ليشمل آلاف الحالات
باشرت وكالات الأنباء بتوزيع مشخصاتها.
وكانت الحالة أمريكية ثم تطورت لتكون
بريطانية أيضاً. فلترفع صاحبة التاج
تاجها عالياً أما شكسبير فما عليه إلا
أن ينعم بالموت منذ اليوم أو بالخزي
الحقيقي. ويوماً بعد يوم تتسع دائرة
الجريمة، ويكلح لون الفضائح ويزداد
صخباً وعنفاً حتى ليستحيي المرء من أنه
وهؤلاء شركاء في الآدمية وهو ينظر إليه.
هل
يمكن لمجتمع فيه أدنى درجة من الحرية
أن يفرز مثل هؤلاء المخاليق؟ هذا هو
السؤال الأهم عندنا؟ وإذا كان هؤلاء هم
رسل الحرية التي يبشرنا بها بوش ورفاقه
ورفيقاته فما هو الوجه الحقيقي لمن
وراءهم؟!
وإذا
كانت الإدارة الأمريكية حقيقة غير
راضية عما يجري ـ ولا نقول عما جرى ـ
فلماذا تسترت عليه هذه الأشهر الطوال؟!
إن
ما يفصلنا عن أول فصول المأساة المعلن،
نقول المعلن، ما يقرب من ستة أشهر. ونحن
متأكدون أن المأساة بدأت منذ أن حل أول
جندي بريطاني وأمريكي على أرض العراق.
واقترنت ابتداء بطريقة اعتقال
المدنيين الأبرياء بدعوى أنهم
مقاومون، أو تحسس أجساد النساء
العراقيات بدعوى أنهن مقاومات. ستثبت
الأيام القادمة أن الخرق أكبر من أن
يرقعه بوش وبلير ورامسفيلد وكوندليزا
رايس.
ثم
إذا كان هذا سلوكهم مع أفراد عاديين من
المواطنين العراقيين الذين ينظر إليهم
هؤلاء المحتلون على أنهم مخالفون (في
الدين أو الثقافة أو الإنتماء)، فماذا
يفعلون مع الرئيس العراقي صدام حسين،
ومع المسؤولين العراقيين الآخرين؟!
الذين اعتبرهم بوش أعداء شخصيين له
ولأبيه من قبله ولآل (كابوني) أجمعين؟!
وإلى
أي حد يمكننا أن نثق بالشرف الأمريكي
في أن هؤلاء لم تمارس عليهم الأساليب
التي مارسها جلاوزة (أبو غريب) مع سائر
المواطنين العراقيين؟!
حديث
رامسفيلد عن التعويض المادي يؤكد أن
هذا الرجل (لا
يفهم)
ولا يحاول أن يتفهم.
فإذا كان لكل شيء في ثقافة الأمريكي
ثمن، فإن الحديث عن ثمن بعض الأمور في
قيم العرب والمسلمين يعتبر إهانة
توازي الإهانة الأولى أو تتجاوزها..
فأي تعويض يمكن أن يدفع للنفس
الإنسانية المستباحة والكرامة
المهدورة؟!
بين التمثيل بجثث الأموات..
والتمثيل بأجساد ونفوس الأحياء!!
جناية فردية مستنكرة، ارتكبها
أفراد في ساعة غضب ونزق، خرجوا بها عن
قواعد ثقافتهم وأصول ديانتهم، أفراد
خائفون وهذا مهم، احتلت ديارهم وأهينت
كرامتهم تحت عدسات الفضائيات في
الشارع العام، أو تحت عدسات الساديين
في أعماق زنازنين (أبو غريب) وغير (أبو
غريب) من سجون العراق.
وجرائم
بشعة تطال ألوف الناس الأبرياء تنفذها
دولة تدعي التمدن، وتحمل رسالة
التحرير والتمدين والتثقيف، ينفذها
فريق سادي من موقع القدرة والسلطة وبدم
بارد.
حين
يتابع المرء الفرق بين الفعلين يتجسد
أمامه الفرق بين تعبير الجريمة
والجناية. الجناية التي تتم في لحظة
غضب وانفعال وعن غير سابق قصد وتصميم
ودون تقدير للأبعاد والعواقب.
والجريمة
التي تنفذ بدم بارد ومن قبل سلطة قوية
مقتدرة، لا يقصد منها منفذوها إلا
التلذذ بآلام الضحايا، ويكون التقاط
الصور لهؤلاء الضحايا وهم تحت المأساة
الإجرامية شكلاً آخر من أشكال الإمعان
في الإهانة أو التعبير عن الحالة
الجرمية المتلبسة بمنفذي هذه الفظائع.
من
أجل الجناة الذين مثلوا بأربع جثث
آدمية، الأصل فيها الاحترام حسب جميع
الشرائع والقوانين، استباحت الإدارة
الأمريكية مدينة كاملة اسمها الفلوجة
قتلت بطريقة لا تقل وحشية عن فعل
جنودها في سجن (أبو غريب) النساء
والأطفال والشيوخ، دمرت المنازل على
رؤوس أصحابها وهدمت المساجد بذريعة أن
المقاومين يحتمون بها. شردت آلاف الناس
من منازلهم ومن مدينتهم بدعوى ملاحقة
الخارجين على الإنسانية.
أما
ما حصل في سجن أبو غريب لألوف
العراقيين، ونقول ألوف لأن الصور التي
وزعتها الصحف الأمريكية والتي تخدش
الحياء الإنساني، ويقمع الإحساس
بالكرامة الإنسانية، فإن الإدارة
الأمريكية تكتفي حيالها بتملص واعتذار
فاتر لا يليق بأمة متحضرة تحترم نفسها
أو ترتكز على قيم وجودها.
إن
ما يحدث في غوانتنامو و(أبو غريب) وما
حدث في الفلوجة عار يلطخ إنسانية
الإنسان في الولايات المتحدة وفي
بريطانيا على حد سواء. وإذا كان لكل شعب
طريقته في غسل العار عن نفسه، فإن على
أحرار البلدين أن يجدوا الطريقة لغسل
هذا العار الذي يلحقه بهما بوش وبلير
معاً.
إن
على الشرفاء في مجلس الحكم في العراق،
وكنا نظن دائماً أن في مجلس الحكم
شرفاء، أرادوا أصلاً أن يدرؤوا مفاسد
الاحتلال عن شعبهم أن يبادروا إلى
اتخاذ الموقف الكريم الذي يليق بهم..
لئلا يمسهم ويلحق بسيرتهم السياسية
عار ما جرى ويجري في سجون العراق.
ـ
على المرجعية الشيعية ممثلة بآية الله
السيستاني أن تقول هي الآخرى كلمتها.
لقد كان صمتها في موضع التفهم قبل
اكتشاف ما حدث في (أبو غريب) ولكن الصمت
بعده لن يكون مفهوما بأي حال من
الأحوال.
ـ
وعلى أبناء الشعب الكردي الأبطال، أن
يقولوا هم أيضاً كلمتهم، وأن يطيحوا
بجميع القبعات المزيفة التي فرضها
الأمريكي على رؤوسهم، ليعودوا إلى
انتمائهم ليس في دائرة الدم واللسان
فقط وإنما في دائرة العقيدة والحضارة
والتاريخ وهو الانتماء الإنساني الأهم.
على
المسؤولين العرب أن يقولوا كلمة تسطر
لهم في كتاب (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة
إلا أحصاها..) عليهم أن يقولوا الكلمة
التي تدفع عنه عار التاريخ وأذاه.
على
النخب العربية المستأجرة لتسويق
المشروع الأمريكي وعداً بالحرية
والديمقراطية وحقوق الإنسان أن يصحو
غافلها وأن يكف عن التهريج مهرجها فقد
أسفر الصبح وبطل السحر.
على
الجماهير العربية أن تدرك حقيقة الحلم
الأمريكي، والوعد الأمريكي، والأمل
الأمريكي وأن تعلم أنه لا خلاص لها،
إلا بانطلاقة ذاتية حميمة تأخذ راية
الإصلاح باليمين، حتى تبلغ بالإنسانية
جمعاء ذروة (أحسن تقويم).
10
/ 5 / 2004
|