حين
يقتل الرئيس بوتين مواطنيه
بين
الدب الروسي ودب لافونتين
ما جرى في موسكو
صبيحة 26/10/2002/ حلقة في سياق حضاري بربري
متواصل في عالم غابت عنه القيم، وعربدت
فيه القوة، فجعلت من نفسها (الحق
المطلق) الذي ينفي ما سواه، و(العدالة
المطلقة) التي لا تقبل إشارة من مشير،
ولا أنة من مظلوم.
الظلم (الروسي)
قائم على شعوب شرق آسيا منذ القياصرة،
فالثورة البلشفية، يستأصل الآخر
وينفيه، وهي عدوى انتقلت إلى بلادنا
العربية تحت عناوين (العنف الثوري)
والتصدي (للثورة المضادة) التي لا
تستحق في مفاهيم أرباب القوة: (بوش) و(بوتين)
و(عمالهم) في العالم أجمع إلا السحق
والتدمير والنفي والتشريد وجرعات
زائدة أو محسوبة من غاز عديم الرائحة
يودي بهم، حيث ألقت رحلها أم قشعم.
الفعل
الشيشاني:
لن يقبل أي إنسان
عاقل ملتزم بقيم عليا أن يسوغ احتجاز
الأبرياء والمقامرة بدمائهم من أجل
تحقيق مكاسب سياسية مهما كانت مشروعة،
ومهما كانت الذرائع التي يتذرع بها
أصحاب القضايا في تعليل تصرفاتهم.
كما أنه لا يجوز
لأي عاقل أو سياسي، أن يقوم الفعل
الشيشاني بعيداً عن سياقه العالمي
والإقليمي. إن الاعتماد على مقاييس
القيم في عالم بلا قيم، هو ازدراء
بالقيم ذاتها. فهل كان الروس يبالون
بأي قيمة سماوية، أو تشريع أرضي وهم
يدمرون ويقتلون، ويرحلون شعباً بأسره
إلى مخيمات لاجئين؟!!
وإذا كان لا بد من
حكم أخلاقي على سياسات العالم اليوم،
فإن الحكم ينبغي أن يناط بما يفعله
القوي المتغطرس، الذي تتيح له قوته
وسيطرته أن يحدد خياراته وأساليبه، لا
بما يفعله المقاوم الضعيف، الذي لا
يملك إلا حجراً يرميه، أو لحماً ينثره
أشلاء في وجه المعتدين.
الحكم الأخلاقي
يناط بما يفعله بوش، لا بكيفية الرد
الأفغاني، وبما يفعله شارون لا بطريقة
المقاوم الفلسطيني، وكذا بأساليب
يلتسين وبوتين لا بطرق تعاطي الشيشان
المقهورين منذ قرون!!
ويبقى السؤال، من
يجرؤ على محاسبة الأقوياء ؟! وكم يكثر
المتذرعون بالحكمة عندما تقع الضحية
بين يدي الجلاد ؟!!
في التقويم
السياسي، تظهر عملية مسرح موسكو
وكأنها (فقاعة في الهواء) أراد أصحابها
أن يلفتوا أنظار العالم، إلى حالة
الظلم والقهر واليأس التي تستبد بهم،
وبغيرهم من أبناء الشعوب المقهورة،
التي لا يبالي بها الأقوياء. بل لعلهم
ـ أي هؤلاء الأقوياء ـ يظنون أن هذه
الأناسي (الشعوب) لا تألم ولا تحلم،
وليس لها الحق حتى في أن تنفجر، بعد أن
يطفح بها الكيل، فيبلغ السيل الزبى،
ويجاوز كل حزام طبييه.
أراد الشيشان أن
يقولوا إن في بلادهم حالة من الظلم
والاستهانة بحياة الإنسان وكرامته؛
فوقف العالم ثلاثة أيام يستمع إلى
خطابهم، ولكن هل كان من الضروري أن
تزهق كل هذه الأرواح (أرواح الشيشان
وأرواح الروس) ليصل هذا الخطاب إلى
أهله ؟! ثم ألا يشعر هؤلاء المظلومون
أنهم قالوا كلمتهم في الوقت الضائع،
وأبناء الإنسانية أجمع (صم بكم عمي..)
وما أبلغ تعبير القرآن.
لم يحاول
المضطهَدون الشيشان أن يعلقوا الجرس،
ولكنهم حاولوا أن يقرعوه، وقد فعلوا،
وسيظن الكثيرون، وبعضنا منهم، أن صوت
الجرس الراعف بدماء المضطهدين
الشيشان، قد تلاشى تحت هدير آلة حرب
بوتين، وماكينة إعلام منحازة، ومثقفين
مازالوا منذ هجروا القيم سدنة لذهب
المعز رغبة، أو لسيفه رهبة. وسيصح هذا
التقويم فقط عند من لا يزال يظن، أن دم
يوسف العظمة أو عمر المختار قد كان
عبثاً وهدراً..
في
الفعل الروسي
ابتداء كنا نأمل
أن ترعى منظمة الأمم المتحدة، ومجلس
الأمن الدولي، والدولة الأعظم الراعية
لمبادئ الحرية والمساواة وحقوق
الإنسان في العالم، مبادئها وقوانينها
فتعطى شعب الشيشان وشعب كشمير وشعب
فلسطين حقوقهم في تقرير المصير،
بالسرعة التي فعلتها يوم فعلتها في
تيمور الإندونيسية، فهدمت وبنت.
في نظر
المضطهَدين في هذا العالم، أن القضية
ليست سياسة، وإنما هي إنسانية بحتة،
حيث مايزال المتنفذون في هذا العالم
يقسمون الناس إلى عنصرين، رغم المبادئ
المعلنة، فإنسان معصوم الدم، موفور
الكرامة، محفوظ الحقوق، وآخر هو من
يمثله الشيشاني والكشميري
والفلسطيني، وكل أبناء الشعوب
المقهورة تحت سنابك المستبدين
المدعومين بقوة من مستبد العالم الأول!!
ومازال الملايين من أبناء العنصر
الثاني يذبحون يومياً لكي لا يغيب طبق
اللحم عن مائدة فرد من أبناء العنصر
الأول حسبما عبر عنه داعية فرنسا
الإنساني جان بول سارتر.
البعد الأول في
تقويم الفعل الروسي أنه فعل قوة غاشمة
مستبدة، عدت على شعب جارٍ، يخالفها
الانتماء والعقيدة، فسلبته متذرعة
بقوتها: حريته وثروته وحقه في تقرير
مصيره تحت سمع العالم وبصره، وهو فعل
مدان بكل الشرائع والقوانين التي
عرفها الإنسان منذ كانت الشرائع
والقوانين.
ثم إن الفعل
الروسي لجأ إلى سلاح كيماوي محرم
دولياً، ضد ثلة من المواطنين /الشيشان
والروس/. وهم حسب النظام والقانون من مواطني روسيا الاتحادية، ومسؤولية بوتين
عنهم سواء. لقد قتل بوتين مواطنيه بدم
بارد جرياً وراء مجد شخصي، وصفق له
الكثير من المخمورين بخمار القوة،
ولكنه بهذه الرعونة أثبت على نفسه ما
يدعيه المضطهدون الشيشان عليه من
جبروت وقسوة ولا مبالاة بحياة الإنسان.
الصرعى في مسرح
موسكو من روس وشيشان هم ضحايا أبرياء
لفعل طاغوت أرعن، يمثله متذرع بالقوة
في عصر سقوط القيم الإنسانية
واضمحلالها. وهو من هذا القبيل فعل
يستحق الاستنكار العالمي والإنساني من
وجهين: الأول السلاح الغبي الذي
استخدمه الدب الروسي، الذي يقترب
كثيراً من دب حكايات (لافونتين)
الفرنسي، الذي ذب عن رأس صاحبه الذبابة
بحجر!!
والثاني اللجوء
إلى القوة، دون إعطاء العمل السياسي
حظه لامتصاص الأزمة. ولعل المضطهدين
الشيشان لم يكونوا أبداً سيدخلون حمام
دم مع ضحاياهم الأبرياء، بل ربما كانوا
سيكونون أكثر رأفة ورحمة وإنسانية من
بوتين نفسه، وقد بدا ذلك من اللفتات
الإنسانية التي بدأت بإطلاق سراح
الأطفال، وهي لفتات لا ندري لماذا لم
ينتبه إليها المراقبون والمعلقون
والمهومون في دوامات أراجيف الإرهاب
العالمي.
والفعل الروسي
يستحق الاستنكار ثالثاً، لأنه أقدم
خارج كل الأطر الشرعية السماوية
والإنسانية على الإجهاز على ضحاياه،
بعد أن شلهم بسلاحه الكيميائي. ولا
ندري لماذا لا يسأل العالم عن مصير
هؤلاء المضطهدين بعد أن وقعوا أسرى
عملياً في يد (الدولة) التي ينتمون
رسمياً إليها. لماذا لم يُسعفوا كما
أسعف الآخرون، ثم لتكن لهم محاكم رسمية
تقول كلمتها فيهم. أسئلة لا يقاربها
أحد ولا يطرحها أحد..
وتبقى جدلية
الفعل ورد الفعل تدور على شلال من دماء
المضطهدين والأبرياء، الذين يقتلون
تحت أنقاض مبنى مدمر في نيويورك، أو
بقذيفة أمريكية على أرض فلسطين، أو
بعبوة ناسفة في كشمير، أو على يد قناص
في واشنطن أو بغاز عديم الرائحة في
صالة مسرح في موسكو.
جدلية لا بد أن
تتوقف، ولن ننتظر وقفها من المستلب
الضعيف، ولا من مجنون قوة مستهتر
بالقيم والحياة، وإنما سيوقفها بلا شك
أصحاب الضمير الإنساني في كل مكان. وحق
لنا هنا أن نطلق نداء عالياً:
يا أصحاب الضمائر
في هذا العالم اتحدوا
|