في
معاني الهجرة
عام
مضى وآخر أطل، (وتلك الأيام نداولها
بين الناس)، وأول ما يستوقفنا للمقارنة
بين (بنية الشعوب)، طريقة الاحتفال
بالذي مضى والذي أطل..
شعوب
ترى في الحياة فرصة للعبِّ من المتعة،
وترى في محطاتها حافزاً للأزيز.. وأخرى
ترى الحياة فرصة للعيش في كنف الله،
وفي محطاتها حافزاً لتجديد العهد معه.
شعوب
ترى في الحياة فرصة للإنجاز المادي
لتحصيل قدر أكبر من المتعة المادية،
وأخرى ترى في الحياة فرصة للإنجاز
العام، ولا يخدعنَّك واقع المسلمين
هذه الأيام، ليتحقق في عالم الإنسان
الرضوان السابغ (الخلق كلهم عيال الله
وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله).
*
* *
ونعود
إلى معاني الهجرة، نقف مع ورقة بن نوفل
وهو يقول لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: يا ليتني كنت جذعاً إذ يخرجك قومك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو
مخرجي هم ؟! يقول ورقة: ما أتى رجل بمثل
ما أتيت به إلا أخرج وأوذي وعودي.
وهكذا
تمضي سنن الله في خلقه، يحمل الطغاة
سيف المكر (ليثبتوك أو يقتلوك أو
يخرجوك..) على رجال العقائد وأصحاب
المبادئ. تمتد الظلمة لتجتاح النور
فيفضحها، ويسعى الدنس مطارداً الطهر
مردداً (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن
قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ).
تمضى
سنن الله، وتمضي الهجرة معلماً بارزاً
في قانون التدافع بين الحق والباطل،
والخير والشر، والإصلاح والفساد. وفي
كل جولات التاريخ طفت السلطة العمياء
على ثبج الزَّبَد ثم ذهبت معه جفاء،
وكانت الغلبة والبقاء للكلمة الطيبة
بأصلها وفرعها على السواء..
*
* *
ربما
لا يدرك المتلبس بالغرور معنى أن
يُخرِج الإنسانَ من وطنه، وأن يحرمه
حقه الطبيعي في تربته وهوائه:
(فلما
أشرف على مكة دمعت عيناه الشريفتان
وقال: إنك لأحب الأرض إلي، وأحب أرض
الله إلى الله، ولولا أن قومكِ أخرجوني
ما خرجت).
ويأتي
أصيل من مكة إلى المدينة، فتسأله
السيدة عائشة رضي الله عنها: كيف تركت
مكة يا أصيل؟ قال: تركتها وقد أزهر
نورها وأشرق ثمامها.. يلتفت إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد دمعت
عيناه ويقول: يا أصيل، دع القلوب تقر..
*
* *
ويقرن
الله سبحانه وتعالى في الكتاب العزيز
الإخراج من الديار بالقتل في سياقات
كثيرة: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُم..).
*
* *
ولما
كانت الهجرة تعني انتزاع الإنسان من
جذوره والتطويح به بعيداً في قياد
الموت البطيء.. فقد قرن القرآن الكريم (الهجرة)
بمعانيها السامية المتلألئة بالإيمان
السابق عليها، وبالصبر المطلوب لتحمل
لأوائها. فوعد عليها أحسن الوعد وأكرمه
وأطيبه (الَّذِينَ آمَنُواْ
وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي
سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً
عِندَ اللّهِ..) (وَالَّذِينَ
هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا
ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ
الآخِرَةِ أَكْبَر..)
*
* *
في
ذكرى الهجرة يقف المهاجرون من أبناء
الشام تحت سماء العقيدة وعلى صليبة
الصبر لتكون الشام، شام الحضارة
والقوة والمنعة، شامة لكل بنيها.
23
/ 2 / 2004
|