برق
الشرق
هل
يستطيع المثقفون العرب
القفز
على صراعاتهم وتجديد أولوياتهم
نجحت
الدولة القطرية العربية، ولاسيما
الدولة الثورية، في إضعاف القيادات
المجتمعية التقليدية وتحجيمها، وشل
حركتها إلى أبعد الحدود. ولكنها لم
تنجح حتى الآن في تقديم بديل عصري
مكافئ يغطي الفراغ الذي نشأ عن غياب
تلك المؤسسات.
فلا
صور الأحزاب المتوحدة بالسلطة، ولا
النقابات أو المنظمات الشعبية
المختلفة المنبثقة عنها استطاعت أن
تغطي من الفراغ
الاجتماعي أكثر من حاجة الحاكم إلى
قاعدة هرم يتربع عليه !!
ولقد
كشف الفراغ الذي حدث في العراق هذه
الثغرة بوضوح. إذ لو كان للمنظمات
الشعبية أي وجود عملي أو حقيقي لكانت
لها مبادراتها في السيطرة على الشارع،
وحفظ الحياة العامة من الاختلال
المريع الذي مارسه نفر قليلون أغلبهم
من أصحاب السوابق وخريجي السجون.
وبينما
ظهر عوار المؤسسات الزائفة (الحزب) و(النقابات)
و(الاتحادات) التي كانت ظلاً للعود
وغابت بغيابه، قفزت إلى الساحة مباشرة
البنى التقليدية المنهكة لتحمل العبء
وتسد الثغرة (العشيرة ـ الأسرة ـ الحي ـ
المسجد..) لسنا بصدد مناقشة جدارة هذه
البنى في القيام بحق ما تصدت له، وإنما
نحن بصدد البحث عن بنى مجتمعية جديدة،
ليس من شرطها أن تتجاوز القديمة، وإنما
أن تكون مؤهلة عصرية للقيام بالدور
المطلوب.
يتساءل
كثيرون بشيء من الغفلة: لماذا
لم يقاوم الشعب العراقي ؟
ويفسرون السلبية العامة من المحتل على
أنها صورة من صور الاحتجاج على النظام.
أما الحقيقة فهي أن النظام خلال سنوات
حكمه الطويل خنق في الشعب العراقي روح
المقاومة، كما صادر كل ظروفها وشروطها.
ولا يمكن لمواطن
بلغ الأربعين وهو (كلٌ) على النظام أن
ينقلب في ساعة إلى مبادر يتحمل مسئولية
مقاومة غير محدودة الأبعاد.
لقد
عملت (السلطة) في الدولة الثورية على
التغول على كل شيء، وجردت المواطن من
إحساسه بأي شراكة، وحرمته من النشاط
الجماعي ولو في جمعية تعاونية، أو
منتدى ثقافي، أو صحيفة حائط في مدرسة.
حتى
المنظمات التابعة للدولة، بل مؤسسات
الدولة نفسها كان دورها في الحياة
العامة ضعيفاً أو مستضعفاً، فأي
مواطن، نصف مطلع، يعلم الكثير عن عجز
المسؤول الحزبي، وعجز المحافظ
الإداري، وعجز الوزير التنفيذي، عن
مقاربة أي أمر ذي بال في الحياة
العامة، ويعلم المواطن كذلك أين يكون
سرّ القرار ومناطه.
هذا
الغياب للشراكة الوطنية على مستوياتها
المختلفة أحدث خللاً كبيراً في الحياة
العامة، واختلالاً أكبر في توزيع
العبء والجهد والمسئولية. ومن الطبيعي
أن يستشعر هذا الخلل والاختلال بشكل
افضل المواطن المهتم بالشأن العام،
المواطن المثقف المنخرط في وجه من وجوه
النشاط العام في الحياة: السياسية أو
الفكرية أو الفنية.
كان
إحساس المثقف العربي بالفاجعة عشية
حزيران السابعة والستين محبطاً
ومكرساً لليأس والقنوط والتحول إلى
أشكال من الهروب العقيم.
فاجعة بغداد التي
نعايش اليوم، رغم ثقلها تختلف عن تلك،
فلقد قاربها المثقف العربي أكثر وعياً
لمقدماتها، واستعداداً لنتائجها، وإن
كان يتوقع لها مراساً أشد، وهو أي
المثقف على اختلاف الانتماء والهوية،
يستشعر لنفسه اليوم دوراً مطالباً أن
يقوم به.. يأسه من الأنظمة يفرض عليه أن
(يبادر) أن يفعل شيئاً ليدافع عما تبقى،
وليؤسس لما هو أفضل.
وغني
عن البيان أن المثقفين العرب، شأنهم
شأن المثقفين في أي مجتمع من
المجتمعات، يتوزعون على مدارس فكرية
ومذاهب سياسية مختلفة. ولكن هذا
الاختلاف لا يمنع أن تكون لهم رؤاهم
المتقاطعة أو المتقاربة.
لقد
جهد المستبد العربي خلال عقود حكمه
الطويل لتخويف المواطنين بعضهم من بعض
على أسس (عرقية) أو (دينية) أو (مذهبية)
أو (فكرية). سياسة التخويف مايزال
معمولاً بها، ومايزال المستبد خائفاً
من أن تنقلب النخب الثقافية عليها.
لابد للانتصار على هذه السياسة، أن
يتحرر المثقف العربي من عقد الماضي،
ومن التصورات السكونية التي قامت في
رأسه فيه منذ عقود أو نامت فيه. ربما
لو راجع كل مثقف نفسه، وراجع معطيات
ذاته خلال العقود التي انصرمت لتبرأ
اليوم من كثير مما كان يظن وفي بعض
الأحيان يعتقد...
تجارب
نصف قرن بمرها ومرها، فما رأت هذه
الأمة خلال نصف قرن يوماً زاهياً،
جديرة بان تجعل الإنسان في أمره يبدئ
ويعيد.
المثقفون
العرب مختلفون، وسيظلون كذلك. ولذلك
كان الخلق (ولايزالون مختلفين إلا من
رحم ربك ولذلك خلقهم..) ولكن ما يختلف
عليه المثقفون العرب يأتي في الأسطر
الأخيرة، وربما في السطر الأخير من
مشروعاتهم. والتحدي الذي يواجه الأمة
أكبر من الطاقة والطوق. والأنظمة التي
كانت تبدو قوية متجبرة معلقة تتلاعب
بها الرياح. والدور اليوم على المثقف
العربي في سد الثغرة، والتأسيس للبناء.
فهل يستطيع المثقفون العرب أن يتجاوزا
خلافاتهم المستقبلية، وأن يتعاونوا
على شأن يومهم الذي يجمعون عليه،
ليجددوا ويحددوا أولوياتهم؟!
01
/ 06 / 2003
|