برق
الشرق
الديموقراطية
في العراق ـ محنة الخطاب الثقافي
د
عاطف صابوني*
قبيل
اندلاع العدوان الانكلو-امريكي
واثنائه انبرت أقلام العديد من (
المثقفين ) العرب تردد بقصد أو عن غير
قصد مصطلحتات العدوان, وتساهم في تعزيز
الخطاب الرسمي العربي المتخاذل وتشترك
معه في النتيجة في تكريس الشرخ داخل
الشارع العربي , ذلك الشارع الذي يتحمل
المثقفون مناصفة مع حكامنا حالة الشرخ
والضياع الذي يعيشه.
وعندما
ينبري قسم من المثقفين العرب بدعوة
النظام العراقي الى التنحي واقامة
نظام ديموقراطي في العراق , وينسون ان
هذه الدعوة ينبغي ان تكون شاملة
وجماعية, فانهم يساهمون بشكل مباشر في
تبرير عدوان ينبغي ان يعلم الجميع بان (
اقامة الديموقراطية ) ليست في أهدافه
ولن تكون كذلك في أي يوم من الايام,
لاشك أن الديموقراطية أمر مطلوب
وضروري وراهني, لكنها مطلوبة ليس من
النظام العراقي وحده, وانما من باقي
الانظمة القمعية العربية , وان مسألة
اختيار العراق اليوم لاتخلو من درجات
المساندة للعدوان.
لقد
اثبتت القمة العربية الاخيرة باحداثها
الفضائحية والشتائمية المثيرة عجز
النظام الرسمي العربي باكمله, والذي
قمع الحريات في كافة أرجاء الوطن
العربي بحجة التصدي للمؤامرات
الخارجية وحالة الحرب المعلنة اعلاميا
مع اسرائيل, وكان على المثقفين ان
يقرأوا بجرأة ووضوح معالم تلك المهزلة.
ولاشك
أيضا أن الديكتاتورية داء مستشر في
العراق منذ زمن طويل, لكنه داء مصابة به
أغلب الحكومات ان لم نقل جميعها,
والمتتبع للاحداث القريبة من التاريخ
القريب يدرك مسؤولية الولايات المتحدة
وشراكتها العضوية في توطين هذا الداء
وتسكينه, ربما للايام والاحداث التي
نعيشها اليوم.
ان
الانحياز للديموقراطية وحقوق الانسان
ينبغي ان يكون موقفا جريئا وواضحا ضد
الديكتاتورية في كل مكان ولا اظن ان
الدموية كانت سمة للنظام العراقي وحده,
والتاريخ يخبرنا الكثير في هذا المجال.
ان
تناغم العديد من ( المثقفين ) العرب مع
الدعوة الاماراتية المشبوهة داخل
القمة لتنحي الرئيس العراقي, انما تمثل
في بعدها السياسي وضمن المعطيات
الحالية اتاحة المجال امام الصواريخ
والدبابات الامريكية وجنود المارينز
دخول العراق واعادة تقسيم المنطقة
العربية بسهولة ويسر ودون قطرة دم (
امريكية بالطبع ).
والسؤال
الجوهري الذي يطرح نفسه هنا : هل اذا
تنحى صدام عن السلطة فان امريكا لن
تضرب العراق ولن تدمر مصانعه وبناه
التحتية وتحوله الى مجموعة مشيخات
شبيهة بتلك الديكورات على شواطئ
الخليج؟.
وهل
لو تنحى صدام عن السلطة فان امريكا سوف
تتخلى ومن معها عن مطامعها في منطقتنا
؟.
ومن
يضمن لنا من هؤلاء ( المثقفين ) انه اذا
تنحى صدام فان امريكا لن تأتينا بقرضاي
جديد ( كأحمد جلبي مثلا أو أ شباهه
الاقزام ) .
لاشك
أن أصغر طفل عربي ( وليس المثقف أو
السياسي ) يعلم تماما بأن العدوان
الامريكي الصهيوني الانكليزي على
العراق بعيد كل البعد عن الديموقراطية
والخير للعراق وغيره, ويعلم أيضا أن
أمريكا هي التي تساند الديكتاتورية
والديكتاتوريين حول العالم.
ثم
ان هؤلاء المطالبين بالديموقراطية
الامريكية داخل العراق لماذا لا
يفتحون أفواههم ليطالبوا بتطبيقها في
بلدانهم ؟, كم دولة عربية يحكمها قانون
الطوارئ, وحتى لانتعب في احصاءاتنا
نقول كم دولة عربية لا يحكمها قانون
الطوارئ ؟.
كم
دولة عربية لا تمتلئ سجونهتا واقبية
التعذيب فيها بالمعتقلين ؟, وبامكانكم
طبعا عكس السؤال كي لا يتعبكم زمن
الاحصاء.
ان
الدعوة اليوم لتنحي صدام اهدار متعمد
للحق العربي وعدوان على العقل و المنطق
, فأمريكا لاتستهدف الديموقراطية في
العراق أو المنطقة بقدر ما تستهدف
اعادة تقسيمها وتقاسمها مع العدو
الصهيوني, وان أية دعوة أخرى تشكل في
المحصلة استخفافا بالعقول.
ان
المثقفين اليوم ليسوا معنيين على
الاطلاق بالدفاع عن صدام حسين ونظامه,
لكنهم معنيون بمواجهة المخطط الانكلو-امريكي-
الصهيوني للهيمنة على العالم العربي
ونهبه, ولو أن مسألة تنحي صدام عن الحكم
سيغير شيئا في النتيجة لكانت أعلنت
أمريكا بأن تنحي صدام سيجعلها تسحب
جيوشها من الخليج العربي بأسره, ان
الحرب الامريكية تحددها مصالح أمريكا
ومطامعها , هذا من جهة ومن جهة أخرى
فالاولى بالمثقفين أن يدافعوا ( كما
يدافعون اليوم عن الديموقراطية في
العراق) أولى بهم أن يدافعوا عن مبدأ
عدم التدخل الخارجي في الشؤون
الداخلية لاية دولة عربية .
ان
رسالة الثقافة الحقيقية ينبغي أن تتجه
اليوم الى رفع راية التغيير
الديموقراطي وفق المصالح الوطنية
والقومية, وليس وفق الرغبات والتمنيات
الامريكية.
لقد
استطاعت أمريكا عبر آلتها الاعلامية
الهائلة ان تؤثر حتى على قسم لابأس فيه
من مثقفينا الذين أضاعوا البوصلة
الحقيقية التي لم تعد ابرتها تغادر
النظر الا الى جهة الغرب, ونسوا أن وعي
اللحظة الراهنة يتطلب صبّ كل الجهود
والطاقات لصدّ العدوان الامريكي على
المنطقة العربية , لقد تحول البعض بقصد
أو بدون قصد الى ظاهرة لاتقل خطورة عن
القواعد العسكرية المنتشرة هنا وهناك
على الارض العربية , وهي القواعد
الاعلامية والثقافية والتي تهدف الى
تشويش العقل والوجدان بما هو أخطر من
أسلحة الدمار الشامل تحت شعارات تداعب
العقل والقلب, كالديموقراطية وحقوق
الانسان وغيرها.
ان
أمريكا التي ثبت أنها تتآمر على النظام
الديموقراطي في فنزويلا وعلى العديد
من الانظمة المنتخبة ديموقراطيا في
أفريقيا وأمريكا الجنوبية , هي أبعد ما
تكون عن همومنا مع حكامنا
الديكتاتوريين, ولا أعرف لماذا أشعر
بالقشعريرة والقرف كلما سمعت بوش
يتحدث عن الديموقراطية حيث اتذكر
جرائم أمريكا عبر التاريخ.
ان
المطالبين اليوم بتنحي صدام حسين عن
السلطة بعيدون كل البعد عن نبض الشارع
العربي الذي يدعو الله ليلا نهارا
لصدام بالنصر على أعدائه, ليس لان
الشارع العربي يحب صدام أو نظامه, بل
لان صدام يحارب أمريكا, فهل يستطيع
هؤلاء ( المثقفون ) أن يكونوا عضويين
وملتحمين مع شعوبهم ومعبرين عن
مواقفهم وآمالهم ؟, ( وعلى فكرة فان تلك
هي الوظيفة الحقيقية للثقافة ).
ان
البيان الذي وقعه بعض ( المثقفين )
يدعون فيه لتنحي صدام عن الحكم انقاذا
للعراق وللديموقراطية هو بالنتيجة (
بغض النظر عن نية موقعيه ) فكرة أمريكية
بتنفيذ عربي, أو هو ضمن هذا التفسير
الذي لا أجد سواه لا يختلف عن موقف
النظام الرسمي العربي المؤيد ( علنا أو
بالسر ) لضرب العراق وتمزيقه وكان
الاحرى بهم طالما ادعوا الثقافة أن
يجمعوا ملايين التواقيع من شعوبهم
للتعبير عن رفضهم للحرب أو على الرغبة
في التطوع للدفاع عن العراق أو على
الاقل ضد عجز أنظمتهم وتخاذلها عن
تطبيق المعاهدات العربية للوقوف الى
جانب العراق, أو في أضعف تقدير أن
يجمعوا ملايين التواقيع ويرسلوها الى
مجلس الامن والى حكومة بوش وبلير.
ان
الشعب العربي هو صاحب الحق وهو الكفيل
بتغيير حكامه, صحيح أن هذا الشعب قد
يكون عاجزا اليوم, لكن حالة العجز هذه
ستزداد مع استعمار المنطقة العربية
وتقسيمها, وان حالة الفشل لبعض هؤلاء (
المثقفين ) في قيادة شعوبهم لانجاز هذه
المهمة في الماضي ينبغي أن تواجه
بدراسة الخطاب والاساليب والادوات
وليس باستعارة الخطاب الامريكي
البريطاني.
ان
أية دعوة لتنحي صدام حسين ونظامه عن
الحكم في الوقت الحالي ستضيف الى
العدوان والغزو مزيدا من الذرائع
لتبريرهما , وكان الاولى أن تتوجه تلك
الدعوة للانظمة العربية لطرد سفراء
العدو الصهيوني والامريكي والبريطاني,
وعدم تقديم أية معونات أو تسهيلات
عسكرية أو فنية أو استخباراتية أو
اعلامية له.
*كاتب
وباحث ـ حلب
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|