برق
الشرق
بغداد
والحرب مستمرة
د.
عاطف صابوني*
من
يزر بغداد يشعر بحق أنها مدينة العرب,
يعرف لماذا يثور كل هذا الجدل حولها
ومن أجلها, يدرك لماذا تكون هذه البقعة
من الارض معبرا للغزاة والطامعين عبر
التاريخ, من يجلس على ضفاف دجلة ويتجول
داخل الحاضرة العباسية الخالدة يدرك
تماما ماالذي يحصل حوله, وتبدو له
الصور الخفية جلية وواضحة امامه
لقد
وصلنا بغداد وفي أذهاننا صور متداخلة
وكثيرة عنها, وفي المخيلة أشياء أخرى
حفرتها أجهزة اعلامنا واعلامهم لها,
وتكون الدهشة كبيرة عندما نتجول في
شوارعها , عندما نتحدث الى سكاتنها
عندما نتظاهر ونهتف لصمودها وبين
عماراتها, عندما نسير فوق جسورها ونعبر
أنفاقها, عندما نزور معاملها ونطلع على
نهضتها, عندما جالسنا مثقفيها
وبسطائها.
بدون
هذا كله لن تستسطيع أن تعرف بغداد أبدا.
وأول
مايمكن للمرء أن يقرأه في عيون
العراقيين وحديثهم وحتى في ألوان
لباسهم وآهات أغنياتهم هي تلك اللمسة
الحزينة التي دمعت عيوننا لها, هي تلك
النبرة الرقيقة والملامح الكريمة لدى
سكانها, والعراقي عندما يراك _أي عراقي
عندما يراك _ سائق التكسي .. البائع
المتجول .. صاحب المحل التجاري .. الموظف
.. الجندي , وعندما يعلم بانك عربي .
تسارع دمعته في الانهمار ويضمك برقة
الى صدره, او تشعر بان قلبه قد احتضنك
فعلا, يحلف عليك بان تكون ضيفه رغم علمك
بانه قد لايملك شيئا في بيته ليطعمك
اياه, يحتار كيف يقدم العون والمساعدة
لك رغم علمك بحاجته وفقره, يتسابق
العراقيون للترحيب بك وانت المندهش
مما ترى والعاجز لسانك عن قول أي شيئ.
من
يزر بغداد يتضاعف عنده أحساسي الحزن
والامل في نسيج تناقضي يتلون بعبق
التاريخ , فبغداد تعيدك قسرا عشرات
القرون الى ما مامضى ,من لم يزر بغداد
لايمكنه أن يفهم التاريخ حتى لو قرأه
كله, ومن زارها يدرك بأنه ليس النفط
وحده ماتريده امريكا من العراق , وليس
فقط تدمير البنية التحتية والمصانع,
وليس فقط تفريغه من علمائه وفنييه ,
وليس فقط شرذمته وتقسيمه على نمط
مشيخات ومملكات الخليج, وليس فقط
احتتلاله والمكوث فيه, ولن يكون فقط أي
سبب آخر .
من
يزر بغداد يدرك أن امريكا تريد كل ما
سبق اضافة الى كون بغداد هي بغداد, وهذا
ليس كلاما بل هو كل الكلام.
من
يزر بغداد يدرك كيف أن بغداد تختلف عن
كل مدننا وحواضرنا, عن كل عواصمنا, من
يزرها ويتجول في أنحاء العراق من شماله
الى جنوبه عابرا جسوره مرة فوق الفرات
واخرى فوق دجلة, من يشاهد العراق
ويتعمق في مشاهداته يدرك تماما لماذا
تقف أمريكا اليوم لتدميره كما وقفت
فرنسا وبريطانيا في خمسينات القرن
الماضي لتدمير مصر وكما وقف العالم
سابقا ضد نهضة محمد علي.
من
يزر العراق يدرك كيف تكون مقومات
النهوض, ويدرك حجم الازلية والخلود, من
يتجول داخل مصانعه المدمرة, داخل
جامعاته التي تتعرض للتفتيش, داخل
مزارعه, يدرك قدرة الانسان العربي على
النهوض.
يدرك
كيف فشل الحصار الاطول في تاريخ
البشرية على كسر هذه الارادة, لقد نجح
الحصار في تجويع الشعب العراقي فتجد
العراقي عاجزا عن شراء حاجياته
الاساسية, نجح في انتشار الاوبئة
والامراض وهذا ما يمكن ان تلحظه في
مشافي بصرة وبغداد من ارتفاع هائل في
نسب الانتانات المعندة والسرطانات,
نجح الحصار في جعل الدولار الامريكي
يساوي 2500 دينار عراقي بعد ان كان
الدينار العراقي يساوي ثلاثة دولارات.
لكن
هذا الحصار فشل فشلا ذريعا في انهاء
المشروع النهضوي العربي في العراق.
ومن
يشاهد اشلاء جثث الاطفال في ملجأ
العامرية في قلب بغداد يدرك حجم الفشل
والافلاس الامريكيين.
من
يتحقق في سبب قصف أمريكا ذلك الملجأ
المليئ بالاطفال والنساء بصاروخين
صمما خصيصا لاختراق جداره الاسمنتي
المؤلف من خمس طبقات اسمنتية وبسماكة
عدة امتار, والصاروخ الآخر ليدخل من
هذه الفتحة وينشر نار جهنم داخله, من
يشاهد تلك الحضارة الامريكية يدرك
تماما لماذا تريد امريكا تدمير العراق.
من
يشاهد آلاف الاطفال في مشافي بغداد
يموتون يوميا بالسرطان لنقص الادوية
الكيماوية والمعالجات الشعاعية يدرك
تماما ماذا يريد جيش بوش ( المتحضر ) من
أطفال العراق.
من
يقرأ معنى تدمير الجسور وحرق المزارع
وتسميم المواشي وقصف محطات توليد
الكهرباء ومصافي البترول يفهم بوضوح
مالذي تريده أمريكا.
من
يزر العراق ويضع نفسه مكان بوش متقمصا
مبادئه وتاريخ بلاده وحروبها, قارئا
بعض الاوراق من دفتر تاريخها, تمر
الصور مسرعة امام ناظريه صور الهنود
الحمر, صور هيروشيما وناغازاكي, صور
فيتنام, أمريكا الجنوبية, صور فلسطين
ولبنان, صور من ليبيا والسودان,
يوغسلافيا, صور افغانستان.
من
يلبس نظارة بوش للعالم المتحضر لابد
وأن يتخذ قراره في تدمير العراق والا
فلن يكون بوش هو رئيس أمريكا , ولن تكون
أمريكا هي أمريكا.
*كاتب
وباحث - حلب.
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|