صحيفة الشرق العربي

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

آخر تحديث يوم الأربعاء 19 - 06 - 2002م

 ـمركز الشرق العربي |   التعريف  |   دراسات  |  متابعات  |   قراءات  |   هوامش   |  رجال الشرق  |  من أرشيف الشرق  |   ـ| مشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد الموقع | مجموعة الحوار |ـ

.....

   

رؤية

النكبة والنكسة من الديمومة إلى المخرج

(رؤية إسلامية)

ليست الإدانة بأي شكل من أشكالها هدفاً لهذه الدراسة، ففي رأينا أن مرحلة التنابذ بالادعاءات قد تصرمت. وأن الرؤية الموضوعية للواقع بكل أبعاده، هي الشرط الأول للخروج من الأزمات، بعيداً عن صخب الشعارات، وزخرف البيانات.

ولقد كان القرن العشرون ثقيلاً على أمتنا، انتظمت عقودَه وأعوامًه أحداث جسام، كانت محصلتها العامة ليست في مصلحة المشروع التحرري أو النهضوي.

كان سقوط الخلافة في مطلع هذا القرن الحَدثَ الأسوأ بالنسبة للأمة المسلمة، وكانت النتائج المباشرة لهذا الحدث الأليم تشظي العالم الإسلامي إلى شظايا متناثرة، بلا مرجعية ولا ضابط.

ومن ثم وقوع الكثير من الأقطار في قبضة الاستعمار الغربي (بلاد الشام ـ العراق ـ مصر ـ الشمال الأفريقي ـ جنوب الجزيرة العربية ـ منطقة الخليج العربي).

وتوجت المرحلة الاستعمارية بفرض نظام عربي يدور، مع اختلاف التوجهات، في فلك الغرب ورؤيته الحضارية والاستراتيجية من جهة، وبتنفيذ المرحلة الأولى من المشروع الصهيوني وذلك بتمكين عصابات المهاجرين اليهود من إقامة دولة لهم على أرض فلسطين، من جهة أخرى، بعد أن فتحت أمامهم أبواب الهجرة، لمدة نصف قرن تقريباً، الأمر الذي تصدى له السلطان عبد الحميد، رحمه الله تعالى، بقوة وحزم فدفع ثمنه بل دفعت الأمة الإسلامية بجمعها الثمن.. وذلك بإسقاط الخلافة على أيدي رجالات الاتحاد والترقي، المرتبطين بالغرب، وبالمشروع الصهيوني مباشرة عن طريق يهود الدونمة المتسللين إلى الإسلام.

ومنذ ذلك اليوم، غدت محاربة القوى الجادة في التصدي للمشروع الصهيوني سُنّةً غير حميدة، يشارك فيها من علم أو من جهل، وغدا محاربة هذه القوى وسحقها، مدخلاً سهلاً وميسراً إلى بحبوبة الرضوان الدولي، المضمخ بالبخور الصهيوني. وماتزال شهادات حسن السلوك الممهورة بالطغراء الأمريكية، مرهونة بقمع هذه القوى، على أرض فلسطين، كما على غيرها من أرض العرب والمسلمين.

كانت النكبة كارثة إسلامية وقومية، تجسدت بقيام كيان دخيل على الأرض العربية في فلسطين، التي تشكل الجزء الجنوبي الغربي من بلاد الشام، فكانت كارثة إقليمية لأبناء الشام عموماً، بهذا المعنى أيضاً، كما تجسدت بتشريد مئات الألوف من أبناء الشعب الفلسطيني من ديارهم، وتحويلهم إلى لاجئين في الدول العربية المجاورة.

انتهت الحرب العربية ـ الصهيونية الأولى سنة 1948 بفرض الهدنة من قبل هيئة الأمم المتحدة. وفهمت الشعوب العربية، أو أُفهمت، أن الهدنة ما هي إلا مرحلة لالتقاط الأنفاس للإعداد لحرب تحرير جديدة، تستعيد الأرض وتطرد المحتل...

كانت الشعارات العربية في هذا الميدان حارة جداً، لكنها لم تخرج أبداً عن إطارها الإعلامي، أو انعكاساتها الذرائعية، التي فتحت الأبواب أمام كثير من سياسات الظلم والاضطهاد والفساد.

ولقد غلبت الانفعالية، واضطراب الرؤية، وسوء التقدير، وغياب التنسيق، وروح المزاودة؛ على الموقف العربي، مما كرس الهدنة وأكد وجود الكيان الدخيل، وأعطاه الفرصة الحيوية للنمو والتمكن عاماً بعد عام... مع غياب الاستراتيجية الشمولية لمشروع تحرري متكامل.

وبمراجعة تقويمية للسياسات العربية في مرحلة ما بعد النكبة والنكسة، ولاسيما على صعيد القطرين العربيين الأكبر مصر وسوريا... يتأكد للمرء أن الأنظمة الثورية في البلدين لم تكن معنية بجد بمعركة حقيقية مع العدو الصهيوني.

فللمعركة الحقيقية مقتضياتها ومتطلباتها الاستراتيجية: المعنوية والتعبوية، في إطار بناء عام حر وسليم للدولة والمجتمع... ولكن رياح الفردية الشخصية، أو الحزبية، كانت تسير بالقطريين العربيين في اتجاه واحد، اتجاه يخدم بشكل مباشر أو غير مباشر المشروع الصهيوني بكل مرتكزاته وأبعاده.

جاءت النكسة سنة 1967 لتثبت للجميع أن المشروع الصهيوني سلسلة لا متناهية من الحلقات، وأن سياسات (القضم المرحلي) أو الانتقال التدريجي من مرحلة إلى أخرى، مدروسة بعناية عند واضعي المشروع ومنفذيه ومؤيديه... ربما كانت المفاجأة باكتشاف من يسدّي لحمة المشروع على الطرف الآخر لخطوط الهدنة، ويمهد له سبل النجاح!!

فلم تكن النكسة كما يحلو للبعض أن يصورها، وليدة انبثاق عبقري صهيوني آني،     أو ضربة خاطفة، وإنما كانت وليدة استراتيجيات متبادلة على طرفي الهدنة بين عامي  1948 ـ 1967.

إن مراجعة السلوك الاستراتيجي في القطرين العربيين مصر وسوريا ربما يدخلنا في إطار البحث عن إدانة تاريخية لهذا النظام أو ذاك مع حرصنا على تجنب هذا الموقف لأسباب تتعلق بالمستقبل مع تجاوز أكثر ما يمكن من سلبيات الماضي.

ربما يتساءل المرء: لماذا لم يفتح حتى الآن ملف الخامس من حزيران على صعيد رسمي واستراتيجي لمعرفة ما جرى، واستخلاص الدروس والعبر، وتحويل ذلك إلى مدخل عملي لموقف أكثر موضوعية وقوة ؟! إن نظم جملة الإجراءات الصغيرة المتناثرة والمتداولة على الجبهتين السورية والمصرية يرسم قناعات غاية في القتامة والسواد! ولكن لماذا نترك الحقائق الأساسية الكبرى في الموقف ونتعلق بجزئيات صغيرة، تثير كثيراً من الشكوك والمفارقات، بأسئلة مثل: ما حقيقة الدعوى بحشود إسرائيلية على الجبهة السورية، تلك الدعوى التي كانت سبباً مباشراً في تصعيد الموقف، وتأزيم المنطقة ودفعها لأتون الحرب؟!

ما حقيقة الحفل الغنائي الساهر الذي أقيم في قاعدة أنشاص الجوية ليلة الخامس من حزيران، وجعل طياري الوحدة الجوية يسهرون على أنغام محمد رشدي وماهر عطار.. وخلجات زينات العلوي؟!

ما حقيقة أن هناك من أمر بسحب خبز الطوارئ من وحدات الجيش السوري قبل الحرب بأيام، من أمر؟ ومن نفذ؟ وما هو الجواب على ذلك؟!!

ما حقيقة أن تأكيدات وصلت للقيادة المصرية والسورية عن طريق السفير التركي بعمان تحدد ساعة الصفر. ثم تم تجاهل ذلك وتناسيه؟

هل انتحار عامر يعفي عبد الناصر من المسؤولية؟  وهل انهيار أحمد سويدان يعفي القيادة السورية من المسؤولية؟!

لماذا تم الإعلان عن سقوط القنيطرة، قبل أن تسقط؟ مما جعل الفزع والهلع يدب في صفوف القوات المتقدمة، وخلق حالة من الفوضى والاضطراب في صفوف الجيش السوري؟!

من كان وراء اعتقال القيادات الفكرية والسياسية في سورية قبل الحرب بأشهر، حرصاً على إخلاء البلاد من القيادات قبل اليوم الموعود؟!

تساؤلات كثيرة متناثرة، لا تجد جواباً، أو يأتي جوابها مرشحاً بسواد الشك، وسوء الظن إن لم نقل بسواد الخيانة والإثم. وربما يسقط جميع هذه التساؤلات، تقرير رسمي، يوضح المجريات، ويشير بموضوعية ودقة إلى ما جرى، لتقتنص منه الدروس والعبر.

وبعيداً عن مجريات المعركة، المتناثرة هنا وهناك، يتساءل المرء عن المدخلات الاستراتيجية العامة التي وضعت الأمة على عتبات الهزيمة الحقيقية..؟!

لقد شاركت جميع المعطيات الاستراتيجية وخلال عشرين عاماً بين النكبة والنكسة في أن تجعل النكسة أمراً واقعاً ومقبولاً، بل مرحباً به عند بعض رجال الثرثرة الثورية، حيث صورت الهزيمة نصراً حقيقياً تجلى في عجز القوات الصهيونية عن الإطاحة بالنظم الثورية العربية، ولا ندري هل كان بمقدور قادة الكيان الصهيوني أن يحلموا بقائد للجبهة السورية مثل أحمد المير يفر من المعركة على حمار..!! أو بقائد أركان ينهار مع الطلقة الأولى للمعركة؟!

لم تكن خطورة ما حدث في السابعة والستين في ضياع المزيد من الأرض العربية (الضفة الغربية ـ الجولان ـ سيناء) فقط، وإنما كانت في كسر الإرادة العربية، وفي تحويل الموقف العربي الرسمي، الذي كان يدغدغ أحلام الجماهير بالأحاديث الساخنة عن تحرير فلسطين، والتخلص من (شراذم) يهود، إلى حديث يعترف، وبأسلوب لا تنقصه الجرأة، عن غسل آثار العدوان، أو المطالبة بالسلام ذي المواصفات المعهودة...

كانت الثمرة المرة، والنكسة الكبرى في توجه الأنظمة العربية إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني، وإطلاق مقولات السلام المنمق أو المحسن والتنازل عن أرض فلسطين...

إن نظرة تقويمية شمولية لحرب تشرين 1973، تشارك في تأكيد حقيقة أن الهدف من هذه المعركة، التي جاءت استثناء على الطريق، كان تحريك الواقع الديبلوماسي، لدفع المنطقة إلى ساحة الاعتراف بدولة يهود، وطرح شعار ما عرف باسم سلام الشجعان!!

ومنذ حرب الثالثة والسبعين وحتى اليوم، تعيش الأمة في حالة من الفوضى أو الإرباك الاستراتيجي، حيث تغيب الوجهة، وتتضارب الرؤى، وتختلط المواقف دون أن يستطيع نظام، أن يصرح بحقيقة ما يريد...

وخلال هذه الفترة أخرجت القضية من إطارها الإسلامي أولاً، ومن إطارها القومي ثانياً، ومن إطارها الإقليمي ثالثاً لتتحول إلى قضية صغيرة، تتولى علاجها منظمة محدودة الإمكانات، اعتبرت الممثل الشرعي والوحيد للشعب والوطن والقضية...!!

إننا في هذه الأوراق حريصون كل الحرص على تقديم رؤية استراتيجية في إطار عملي، لا نتجاهل الواقع، ولا نقفز عليه، ولا ننسى دور القوة في دعم الحق، ولا نغفل عن دور الحق في دعم القوة.. إنها دعوة عامة للتصدي للمشروع الصهيوني، لوقف تقدمه أولاً، ولدحره في خطوات مقاربة ثانياً...

ولقد جاءتنا إشارات كثيرة من هنا وهناك تؤكد لنا أننا بالإصرار على موقفنا هذا، ندفع نفس الثمن الذي دفعه السلطان عبد الحميد من قبل عندما وقف في وجه (قرصوه)، والمشروع الصهيوني... ولكنها الضريبة الأنفس التي نشرف بدفعها مع كل الأحرار والمخلصين من أبناء شعبنا، على اختلاف توجهاتهم.

ـ أولاً ـ

الرؤية

إن الملحظ الأول لرؤيتنا الاستراتيجية، أن يستقر في وعينا أفراداً وجماعات ومسئولين، أننا أمة مستهدفة.. ولهذا الملحظ أبعاده التاريخية التي لا يتسع المقام لسردها، ولا تغيب عن ذهن قارئ حصيف، وقد انضمت أسباب جديدة في هذا العصر، لتعزز هذا الاستهداف، وتجعله حقيقة استراتيجية لا فكاك لنا منها. ولعلنا نفهم في هذا السياق من قوله تعالى (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) معنى إضافياً ينضم إلى تقريرات المفسرين، بأن كُتب بمعنى (فُرض)، أن القتال هو قدر هذه الأمة لكي تبقى، وتعيش حرة أبية.

عاشت منطقتنا، وإنسانها، في كل فترات التاريخ تحت قوس المهددات الخارجية، وفي كل عصر يكون لهذه المهددات مسوغاتها وذرائعها، التي تدور مع الشر حيثما دار. وهذه حقيقة ينبغي أن تكون ماثلة في كل رؤانا الاستراتيجية لاختيار مواقفنا وأنماط عيشنا.. لسنا أمة مخلاّة لنرتع مع الراتعين، أو لنحذو حذو المهمَلين.. وإنه لأمر جد وليس بالهزل، ولعل هذه الحقيقة هي المدخل الأول والأساس إلى رؤيتنا.

والملحظ الثاني أن دفقة بشرية غريبة، أو حملة من حملات الغزاة طالما تعودت منطقتنا على استقبالها، والتعامل معها، حطت رحالها في القرن العشرين على الشواطئ الجنوبية الغربية لبلاد الشام، وأقامت هناك ـ دولة ـ أو كياناً متفوقاً بنمطية موقفه، وآلة حربه، ومرتكزات تأييده، ضمن منظومة من العلاقات الدولية الساخنة والداعمة، والتي تجعل المعركة مع هذه الدفقة البشرية وتوابعها، تمتد إلى ما وراء المحيطات، حيث يتحالف ـ اليهودي مع الصليبي ـ في حلف لا تكاد تبصر طرفيه..

يندفع اليهودي بأثرة ذاتية، وحقد تاريخي، ورغبة محمومة في تحقيق أحلامٍ ذات أبخرة تلمودية، ومآرب وتطلعات شيلوكية.. ويسنده الصليبي بإرث تاريخي يتجلى في حلم عصف برأس (البابا أوريان الثاني) و(بطرس الناسك)، و(ريتشارد قلب الأسد) ونطق به (ألنبي) يوم دخل فلسطين، وغورو يوم وقف على ضريح صلاح الدين. ويعزز هذا الإرث، بل ربما يتفوق عليه، مصالح كبرى يجسدها البترول دم الحضارة الغربية التي كانت أرضنا مستودعه، فيأتي التحالف الذي امتزج طرفاه، كما قلنا، ليجعل من فلسطين: موطئ قدم، وقاعدة متقدمة بالنسبة للبعض، ونقطة انطلاق أولية لطموح غير محدود، في إطار مشروع يجند كل المعطيات المادية في استنزافنا، وتسخيرنا لمآربه وأطماعه، على نحو أكثر سوءاً مما كان عليه عهد الرق، أو مما مارسه سماسرة العبيد.

ـ الموقف ـ

بين المطلق والمحدود، أو بين النهائي والمرحلي، بون شاسع قد يبدو للكثيرين خلافاً أو اختلافاً، لكن الحقيقة التي لا بد من التأكيد عليها هي أن المطلق أو النهائي ينبغي أن يكون مهيمناً على المحدود أو المرحلي، موجهاً له، متوسلاً به إلى موقع أقرب أو منهج أيسر.

وعلى أساس هذه الحقيقة ينبغي أن يصاغ موقفنا، وبعد الاتفاق على المطلق والنهائي لن يكون هناك كبير اختلاف في صياغة المحدود أو المرحلي، وباختصار شديد وإيجاز مركز نصوغ موقفنا الذي يتجلى بالرفض المطلق لقيام هذا الكيان الدخيل على أرضنا. ومن هذا الرفض تنبع كل خططنا ومواقفنا وجزئيات رؤيتنا.

إن رفضنا لوجود هذا الجسم الغريب بين ظهرانينا، هو عنوان حياتنا، ودليل كينونتنا، وكما تفعل الأجسام الحية يكون رد الفعل التلقائي في محاصرة هذا الجسم الغريب، أو تأزيم منطقته حتى ينفجر بعملية طرد تنبذه خارج المجال الحيوي...

ثم إن هذا الموقف الصلب، ينبغي أن يدعم بإرادة قوية، للبحث عن السبيل الأمثل لترجمة هذا الموقف على أرض الواقع، من خلال الاستراتيجيات الشاملة التي تضع الأمة: أفراداً وجماعات ومؤسسات في الموقف الأفضل والأقوى للتصدي لهذا العدوان...

إن للمشروع الصهيوني في رؤيتنا أبعاداً متعددة الوجهات، ولعل الجانب السياسي أو العسكري هو الوجهة الخشنة الشئزة منها. إن غفلتنا عن بقية أثافي هذا المشروع يجعل منا كمن يعالج نتائج أي ظاهرة، دون استقصاء أسبابها.

إن نقطة الخطأ الأولى في موقف حكوماتنا الرسمي هو تغافلها عن مقابلة المشروع الصهيوني بمشروع مكافئ له، يعد العدة للتصدي لكافة أبعاد المشروع المواجه، ومن هنا فإن دراسة أبعاد المشروع الصهيوني دراسة استقصائية، ثم وضع الخطط المقابلة للتصدي له، وإحباط مخططاته هي نقطة انطلاق أولية للمواجهة الشمولية.

إن أي إعداد مكافئ في هذا الميدان، ينبغي أن يعتمد على مرتكزاتنا الحضارية المتمثلة في عقيدتنا الإسلامية وقيمنا العليا؛ وأن نستفيد أيضاً من كل معطيات العصر العلمية والفنية والتقنية.

البعد الأول للمشروع الصهيوني: البعد الحضاري والثقافي...

كان القرن العشرون منذ بدايته قرن صراع فكري حاد، بين أمتنا، وجملة من الأفكار والمفاهيم، عن قضايا الحياة الكبرى حاولت أن تأخذ مكانتها في منظومتنا الفكرية التي تحكم سلوكنا، وتوجه مواقفنا... وفي النصف الثاني من القرن المذكور، انتقل الصراع من عالم الأفكار، إلى بنية العقل العربي ذاته إذ بدأت تطل علينا آراء ودراسات تنتقد العقل العربي ومرتكزاته، لا من رؤية موضوعية مطلقة، ولا تنتقد هذا العقل بأدواته نفسها، وإنما انصب هذا النقد على مرتكزات تفكيرنا الأساسية بأدوات غربية أو غريبة عن أساس المنهج الذي يتوجه إليه الدارس بالنقد والتمحيص... وتبين من خلال المتابعة الفكرية الدقيقة، أن المشروع الصهيوني المتداخل بإحكام مع المشروع الغربي، يسعى وفق استراتيجية دقيقة ومحددة إلى إعادة تشكيل العقل العربي والعقل المسلم، على نحو يجعله في النتيجة، خادماً مباشراً لهذا المشروع، بحيث تصب كل النتائج العقلية في مصلحته... ولقد انخرطت مناهجنا الفكرية والثقافية الرسمية والعامة، كما انخرط كثير من مفكرينا بهذا المنهج، فاهتزت في حياة الأمة قيم.. وبرزت قيم، فحسّن القبيح، وقبّح الحسن، واختلت المعايير، واضطربت الحياة العامة في كثير من مناهجنا، وفقد المجتمع وجهته وصبغته، وأصبح الإنسان عاجزاً عن وصفه بصبغة، أو إلحاقه بحضارة...!!

وهكذا غدا المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، حسب مصطلحات حضارتنا الأصيلة. وغدا الجهاد الماضي إلى يوم القيامة، والذي هو قمة سنام الإسلام؛ قيمة مستهجنة عند الكثيرين، وأصبح كثير من قادة السياسة والرأي والفكر يتحاشونه في لفظه وفي مضمونه، حتى حق علينا الذل والصغار، ونالنا من لا يدفع عن نفسه بالعدوان.

إن من حق أقوياء العالم أن يستخدموا أعتى ما يملكون من ترسانة عسكرية ليدافعوا عن مصالحهم في برميل نفط جادت به أرضنا؛ وليس من حقنا أن نستخدم حجراً للدفاع عن أرضنا أو عرضنا أو حتى الرضع من أبنائنا!! ونستطيع أن نلحق بهذه القيمة الإسلامية العليا جردة طويلة من القيم شارك في تغيير موقعها كتاب ومفكرون وفنانون وأدباء وإعلام رسمي موجه، ومناهج مدرسية معلولة.

نرجو ألا يفهم من طرحنا أننا ضد التقويم والنقد الذاتي البناء الذي يسعى إلى التطور والنماء، كما نرجو ألا يفهم من طرحنا أننا نسعى إلى إغلاق النوافذ والأبواب فرحين بما لدينا من العلم، معرضين عن الاستفادة من مناهج الآخرين وتجاربهم، فمثل هذا الموقف ترفضه طبيعة الحياة قبل أن يرفضه الفكر النير المستقيم.

إن معركتنا مع المشروع الصهيوني، والمشروع الغربي في هذا الميدان معركة أساسية، وهي نقطة البداية قي انطلاقنا فيما نظن، في تصحيح تصوراتنا عن الكون والحياة والإنسان، وقيم الحق والخير والجمال، وعن المعروف والمنكر، والجهاد والعدوان...

إن تصدينا للمشروع الصهيوني ينبغي أن يمر من هنا، وأن نعيد صياغة مناهجنا العامة، وأساليب تقويمنا للأفكار، على ضوء معطيات الفكر الأصيل المنفتح على أسرار الوجود وحقائق الحياة، ومعطيات الحضارة والمدنية، بعيداً عن حالة التبعية التي ترى الخير نمطياً فيما عند الآخرين، وترى الشر والقبح والإسفاف في كل ما هو ذاتي، وإن كان الحق الصراح...

البعد الثاني للمشروع الصهيوني: البعد النفسي والأخلاقي...

ومن عالم المثل والقيم والأفكار المجردة ننتقل إلى عالم (السلوك) و(الأخلاق) فلا قيمة للقيم أو للأفكار مهما كانت سامية وجليلة ما لم تجد مرتسمات واقعية، أو ما لم تتجسد في ذوات حية تحملها وتعيش بها ولها.

وإن كان في الحضارة الغربية شقان أساسيان يحكمان حياة الناس، شق هو للجد والحزم والإنجاز، وشق هو للهوى والباطل، فإن حظنا من حياة القوم، مع الأسف، انساق وراء الشق المتمثل في باطل القوم، ولهوهم، فنافسناهم بحق في ميادين اللهو والعبث، ولم نستطع أن نقاربهم في ميادين الحزم والجد...

لا نريد أن نزعم أن الوجهة النفسية لحضارتنا متجهمة كئيبة، ولكننا ونحن نخوض صراعاً يتعلق بأصل كينونتنا، لا بد أن نغلّب جوانب الجد في حياتنا. لا بد أن نبني في مجتمعاتنا ذلك المعنى النفيس الذي أطلق عليه (مصطفى صادق الرافعي) في يوم من الأيام عنوان (الأخلاق المحاربة)... فأين كانت مجتمعاتنا من هذه الأخلاق؟ وأي دور أولته الحكومات المتعاقبة والمؤسسات الرسمية لها؟ وما هي المظاهر الحقيقية التي أُخذ بها الفرد والجماعة لنضع أقدامنا على أول الطريق، في بناء هذه الأخلاق...

يقول محاور: وهؤلاء أعداؤنا يقاتلوننا وينتصرون علينا، وهم غارقون فيما تحذر منه؟!!

والحقيقة أن مثل هذا الاعتراض يتجاوز الظروف التعبوية للمعركة فعدونا يقاتلنا بإنسان هش ووسائل صلبة حتى ليضعك أما قوله تعالى (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر..)

إن إعداد المقاتل ليحارب في الأرض المكشوفة، أو ليناوئ الدبابة بالحجر، يحتاج إلى مناهج متميزة تجعل منه الرجل القادر على القيام بأعباء مهمة صعبة، في مثل الظروف التي يتحرك من خلالها أطفال فلسطين اليوم...

ونخن نقدر أن غمس أجيال الأمة في حمأة الشهوات، أو ربطها بسفاسف الأمور، لشغلها عن قضاياها الكبرى، جعل منها، فرائس سهلة الانقياد فيها كل ثقل الجبلة الطينية، وخفة الزبد...

ومن هنا فإن دعوتنا لمقاومة المشروع الصهيوني، تمر عبر البعد الثاني. الذي يتطلب إعادة النظر في البناء الأخلاقي للأمة، إذ لا يمكن أن تصدق دعوى إرادة قتال أو تحرير لمسؤول، وهو يوزع طاقات الأمة لتنبغ في أفانين الهوى أو الهوايات.

والبعد الثالث للمشروع الصهيوني: البعد الاقتصادي...

وللسيطرة الاقتصادية مدخلاتها وأنماطها ووسائلها، ولن تكون قادراً على مقاومة الآخر، وأنت محتاج إليه، ملتصق به...

وحاجتنا للآخر نشأت من نمط حياة استهلاكي، استوردناه مع سيئ مستورداتنا من الغرب، نريد أن نعيش عيشهم، وأن نبذخ بذخهم، وأن نلبس ثيابهم، وأن نستخدم وسائلهم، وإن كانت إمكاناتنا الذاتية لا تتيح لنا ذلك... أقرضونا لنشتري منهم، ثم كبلونا بهذه المديونية الثقيلة التي لا يدري أحد كيف تراكمت علينا...؟

هل هو بعد اقتصادي محض، أم أنه بعد أخلاقي أيضاً؟ من الصعب الفصل، ولكن كل النظريات الاقتصادية تنتهي إلى هنا.

لا بد من عودة في ترتيب أولويات الاقتصاد، لا بد أن نشعر بالغنى مع القلة، والسعة مع الضيق، قد لا يعيبنا أن نعود إلى مائدة تغمس اللقمة في القصعة، وإلى أسرة يلبس فيها الصغير ثياب الكبير، ولكن الذي يعيبنا كأمة ومجتمع وأفراد، أن نكون خاضعين لإملاءات صندوق النقد، أو البنك الدولي، أو الدولة التي تتصدق علينا بما أسن لديها من قمح...

إن تحررنا الاقتصادي ينبع أولاً من رفضنا أن نكون مسننات إنتاج في الآلة الغربية الضخمة. والثاني أن نكون مستهلكين أو مروجين لسلع هذه الآلة، إلا فيما لا بد منه من معطيات المدنية الأساسية.

إنها ليست دعوات فلسفية أو مثالية، وإنما هو موقف اقتصادي قويم لبناء مجتمع متماسك قوي، تسوده روح القناعة لا لهفة التكاثر على متاع هذه الحياة... والقناعة في هذا السياق لا تعني التواكل أو التخاذل عن الإنجاز، إنما تعني توظيف طاقات الإنجاز فيما هو أجدى للأمة، وأنفع لأبنائها...

وعلى ثلاثية العقل النير، والسلوك القيم، والإنسان المتحرر، تبنى الدولة القوية التي تستند على أرضية صلبة من إنسان واعٍ قويم ومتحرر من ذل الحاجة أو سُعار اللهاث وراء المادة...

وسيكون هذا الإنسان هو الذي يتحمل مسؤولية خيارات الأمة الكبرى، من خلال مؤسسات مسؤولة تحسن توظيف الجهد، وتنظيم الحركة.

وبين الإنسان الأنموذج، والدولة الأنموذج حلقة مفرغة يكسر طرفها دائماً النخب القوية المخلصة من أبناء الأمة... وحين تبدأ المسيرة سنكون قد وضعنا أقدامنا على أول طريق التحرير...

البعد الرابع للمشروع الصهيوني: التجزئة الإسلامية والقومية...

ونستطيع أن نعود على بدء، لنقول: في البدء كانت التجزئة: كان (هرتزل) و(قرصوه) وسياسات التتريك و(سايكس ـ بيكو) وكانت هذه الدول القطرية، التي ارتبطت في تاريخنا بحالات الانحسار والانحطاط، ودروس التاريخ لا تغيب عن متأمل واع مستنير.

وإنه من حقنا أن نتساءل: من أين تستمد هذه الدولة القطرية قوتها، ونسغ وجودها؟! وكيف نعجز خلال قرن مضى عن تحقيق وحدة هي الأصل في بنائنا العقائدي والفكري، وهي متطلب أساسي من متطلبات وجودنا الحق، وهي هدف أساس يجمع عليه حاضر الأمة وباديها، قاصيها ودانيها، حكامها ومحكوموها؟!

كيف تستمر التجزئة ويضيع كل ما كتبه الكتاب، وخطب به الخطباء، وتلألأت به شعارات السياسيين؟! وكأننا أمام قوله تعالى (.. لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم..)

وإذا كانت التجزئة هي المدخل الرئيسي لسيطرة المشروع الصهيوني علينا؛ فإن الوحدة ينبغي أن تكون الهدف الناجز للتصدي لهذه السيطرة.

إن حالة اليأس والإحباط التي أصابت الكثير من النخب بشأن الهدف الحيوي الأساسي؛ هي بعض ثمرات المشروع الصهيوني. حتى ليظن أن الدعوة إلى الوحدة في القرن المنصرم لم تكن إلا ملهاة للتعويض عن البناء الذي تم تقويضه تحت سمع الأمة وبصرها.

إننا في رؤيتنا الاستراتيجية سنظل نضع الوحدة العربية، والوحدة الإسلامية، بأي مستوى من مستوياتها، في رأس سلّم أولوياتنا، ونعتبرها مطلباً ملحاً وأساسياً للخروج بالأمة من حالة الذل والهوان، وللتصدي بحق للمشروع الصهيوني؛ حيث لا نواجه دولة محدودة الإمكانات والأبعاد، وإنما نواجه مرتكزاً استراتيجياً وحضارياً متغطرساً له قيمه وإمكاناته ووسائله.

البعد الخامس للمشروع الصهيوني: الشرذمة الوطنية...

والشرذمة الوطنية مدخل آخر من مدخلات المشروع الصهيوني، وذلك بدعم حكومات ذات طابع فردي استبدادي، تستأثر بمقدرات الدولة، وبقرارها، يلتصق بها غالباً أصحاب المصالح من ضعاف النفوس، وعبيد الخصب، ويغيب أو يُغيّب عنها الأخيار الناصحون من أبنائها. فتهدر طاقات الأمة، وتبعثر جهودها، وتسعر نار الفتنة بين أبنائها.

إن معطيات شريعتنا الإسلامية من قيم الشورى والتعددية والتداولية، ومن روح العدل والمساواة والتسامح، ما يكفي لبناء الدولة الجامعة التي توحد الموقف، وتؤلف بين المختلف، وتوظف الجهد في مواجهة العدو المغتصب.

ومازال واضعو المشروع الصهيوني ومنفذوه ومؤيدوه يحولون بين أبناء أمتنا وبين خيارهم الحر الأصيل في بناء دولتهم، ورسم إطار حياتهم، ولكل من هؤلاء معاذيره: مداخله ومخارجه في تسويغ اغتصاب إرادة شعوب هذه الأمة وتطويعها بالتالي لسدنة المشروع الصهيوني.

وحين نأخذ أنفسنا بالتصدي لجذور البلاء، بأبعاده الخمسة تلك، وحين يتقرر الهدف العام في رفض هذا الوجود الدخيل استراتيجية عامة للأمة لا يحاد عنها، سيكون (خيار اللحظة) خياراً فاعلاً ومؤثراً في تغيير قواعد اللعبة، وسيتكاتف الحجر والشجر مع الإنسان في طرد العدو الغاصب من الأرض المباركة...

زهير سالم    

19 / 06 / 2002م

السابق

 

 

   

for

S&CS

 

 

المحتويات

 
  الموقف  
  برق الشرق  
  رؤية  
  اقتصاد  
  كشكول  
  غد الوطن  
  حوارات  
  تراث  
  بيانات وتصريحات  
  بريد القراء  
  قراءات  
  شآميات  
 

 

  اتصل بنا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للأعلى

2002 © جميع الحقوق محفوظة     

   

 ـمركز الشرق العربي |   التعريف  |   دراسات  |  متابعات  |   قراءات  |   هوامش   |  رجال الشرق  |  من أرشيف الشرق  |ـمشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد ـالموقع | مجموعة الحوار |ـ

| ـالموقف |  برق الشرق  | رؤية  | اقتصاد |  كشكول  | غد الوطن  |  حوارات  | تراث  | بيانات وتصريحات |  بريد القراء |  قراءات  | شآميات  |  ـ